القصاص بين العقل والشرع
القاتل يقتل ، وما دام قد تعمد إزهاق روح بريء فإن إفقاده الحياة قصاص عادل ، ولا مكان لطلب الرحمة به.
وقد علت صيحات شتى تطلب إلغاء عقوبة الإعدام ، وترى أن المجرم مريض ينبغي أن يعالج ، وتزعم أن قتله لا يفيد شيئاً ، ولن يعيد الحياة إلى الضحية التي اعتدى عليها.
والغريب أن هذه الصيحات الجاهلة وجدت من يستمع إليها في أوربا وأمريكا ، فألغيت عقوبة الإعدام ليحل محلها حكم بالسجن مدى الحياة.
ونحن نتدبر حجج القوم فلا نجد فيها إلا اللغو المرفوض ، ذلك أنهم يقولون: إن القصاص من القاتل لن يعيد الحياة إلى القتيل المظلوم ، ونحن ما أعدمنا القاتل لهذا الغرض البعيد ، ولكنا أعدمناه لنستبقي الحياة في أرجاء الجماعة كلها ، ولنزعج كل مفكر في العدوان ، فيوقن أنه سيفقد نفسه يوم يميت شخصاً آخر.
إن أغلب المجرمين يعتدون على حق الحياة لأنهم ذاهلون عن الثمن الذي يدفعونه حتماً ، ولو علموا أنهم مقتولون يقيناً إذا قتلوا غيرهم لترددوا وأحجموا.
ويوم قال العرب: القتل أنفى للقتل .. وعندما أوجز القرآن الكريم ثمرة العقوبة المرصدة في هذه العبارة الوجيزة (ولكم في القصاص حياة) كان ذلك تجسيماً للاستقرار الذي يسود البلاد ، والأمان الذي يصون الدماء عقب إنفاذ كتاب الله في كل معتد أثيم ..
وقد يكون القاتل مريض النفس أولا يكون! في التعلل بهذا لتركه يفلت من آثار فعلته؟
ما أكثر الأمراض النفسية والفكرية التي تظهر أو تخفى في سلوك الأفراد ، وقد شرعت سير وعبادات منوعة يستشفي بها الذين ينشدون العافية ، والذين يؤثرون حياة الشرف والسلم فلا يبسطون أيديهم بالأذى ، ولا يلغون في دم أو عرض أو مال .. فهل نعتذر لشخص يهتك الحرمات لأنه مستطار الشهوة ، أو نعتذر لسفاك يرخص الدماء لأنه منحرف المزاج ، لماذ إذن تقتل الكلاب المسعورة والذئاب المغتالة؟ إن القاتل يُقتل ولا مساغ للجدال عنه.
وقد ترك القتلة في بعض الأقطار إهمالاً لحكم الله وإعلاءً لحكم الطاغوت ، فماذا كسبت هذه الأقطار من ترك القصاص؟ كسبت انتشار الجريمة ، وسيادة الفوضى ، وذعر الألوف إن كانوا في الطرق أن يصابوا ، أو في بيوتهم أن تقتحم عليهم!!
فهل هذا هو المطلوب من العطف على المجرمين ووصفهم بأنهم مرضى بانحرافات نفسية ..
إن الله عز وجل جعل العدوان على إنسان واحد استهانة بحق الحياة للناس كلها (أنه من قتل نفساً بغير نفسٍ أو فسادٍ في الأرض فكأنما قتل الناس جميعاً ، ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جمعاً).
والإحياء المقصود قد يكون بإنقاذ غريق ، أو حماية مهدر مطارد مظلوم ، وقد يكون بتوطيد حق الحياة للجماعة كلها عندما يقتص من مجرم سفاح ، فإن قتله حياة لغير واحد كان يمكن أن يصرعوا لو بقي السفاح حراً.
والقصاص تشريع قديم في النفس وفي الحواس والأطراف (وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس والعين بالعين والأنف بالأنف والأذن بالأذن والسن بالسن والجروح قصاص ، فمن تصدق به فهو كفارة له).
والصدقة هنا تنازل المرء عن حقه المقرر شرعاً ، ويجوز أن يتنازل أولياء الدم عن القصاص نظير مال يتفق عليه ، أو قربى إلى الله بالعفو.
وفي الحديث (وما زاد الله عبداً بعفو إلا عزاً) ، وهناك يترك القاتل فلا يقتل ، ولكن من حق الدولة أن تعاقب الذين يعكرون صفو الأمن بما ترى من عقوبات.
وربما تساءل بعضهم: لماذ يسقط القصاص بعفو ولي الدم؟
والجواب: إن الملابسات التي تحيط بالجرائم كثيرة ، وهناك ناس لا يحرجهم المصاب المادي قدر ما يؤذيهم الهوان الأدبي ، فإذا ضربه قوي طاغ لم يحزن لألم بدنه كثيراً إنما كان حزنه الأهم الأعم لقدرة غيره عليه ، وللضعف الذي جرَّأ الآخرين على إساءته.
ويذهب هذا كله عنه يوم يملك حق الإحياء والإماته لخصمه ، ويوم يلجأ الناس إليه طالبين عفوه وآملين أن تكون يده العليا ، إن هذا يكفيه ويشفيه ، وانتهاء الحق الفردي لا ينهي حق الجماعة كما أسلفنا.
شبهات وردود
الأخ الحبيب الأستاذ أبـ مريم ـو