مقدمة لابد منها
عندما ظهر الضعف والوهن على جسد الأمة الإسلامية مطلع القرن التاسع عشر الميلادي من جَرَّاء الهجمات الشرعة التي قام بها الغرب الصليبي واستطاعوا بعدها السيطرة على جزء كبير من بلاد المسلمين، والاستيلاء على مواطن الخيرات ومكمن الشروروات، انتفضت عدة حركات إصلاحية كرد فعل معاكس للأوضاع المتردية. . . وقام كثير من الدعاة يجوبون البلاد لإنقاذ الناس مما هم فيه من ركون وغفلة، ووجد دعاة الباطنية والتيارات المنحرفة والحركات الهدّامة الفرصة للاختفاء في هذه الانتفاضات لبث معتقداتهم ونشر أفكارهم، وبمضي الزمن ظهرت جماعات وفرق خلطت بين عقيدة الإسلام النقية الصافية وبين الملل والنحل القديمة التي ما جاء الإسلام إلا ليخلِّص الناس من شرورها وضلالها.
وكانت فكرة المهدي المنتظر من أهم الأفكار التي وجدت رواجاً شائعاً في هذه الأثناء وكانت تعبيراً واضحاً عن روح الضعف والتخاذل التي دبت في صفوف المسلمين، فلم يكن في استطاعتهم مواجهة الواقع المرير الذي عاشوا فيه، فتمنوا أن يخرج عليهم من ينقذهم وينتشلهم ويعيدهم إلى الحياة التي تمنوها لأنفسهم في ظل الدين الإسلامي العظيم.
هذه الفكرة ورثتها الإنسانية عن أساطير الفرس البابليين، وشاعت في اليهود أيام سبيهم في بابل بالعراق( القرن السادس قبل الميلاد)، عقيدة المسيح المخلِّص، الذي سوف يردهم إلى فلسطين، فيقيمون هيكلهم ويعيدون مملكة داود وسليمان بحد السيف، وينتقمون من أعدائهم، فلما ساعدهم ملك فارس الوثني (قورش) في العودة الجزئية إلى فلسطين، اعتبروه بنص كتابهم المقدس المخلِّص، ثم عادوا وقالوا إنهم لازالوا ينتظرون هذا المسيح الذي سوف يأتي من نسل داود(عليه السلام).
أما المسيحيون فينتظرون أن يأتي الرب المسيح في آخر الأيام على السحاب فيختطف الأبرار، بينما تؤمن عقائد منحرفة من المسيحية مثل شهود يهوه بعودة المسيح إلى الأرض ليحكمها ألف عام يسلسل فيها الشيطان.
ويؤمن بعض المسلمين بظهور المهدي في آخر الأيام ليحارب الشر المتمثل في المسيخ الدجال، وينضم إليه المسيح عيسى بن مريم في هذه المعركة، وهذا المهدي رجل من بيت النبوة، سوف يؤيد بالدين ويملأ الأرض قسطاً وعدلاً كما مُلِئت ظلماً وجورا.
وهذا النمط من التفكير والشكل من التعبير يكثر استخدامه عند الشيعة التي ظهرت فيهم هذه البدعة الضالة وهم يَعْنون به الشخص الممتاز الذي ينوب عن الإمام الغائب في تبليغ تعاليمه إلى أتباعه، وهو الباب الموصل إلى اللقاء بالإمام الغائب الذي يترقبون ظهوره، ودائماً ما يطلقون هذا اللفظ "الباب" على أركان دعوتهم معتمدين على حديث مكذوب ينسبونه إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو: " أنا مدينة العلم وعلي بابها، فمن أراد العلم فليأت الباب"(1)
وأكثر الحركات الباطنية تستعمل كلمة "الباب" للدلالة على ما يبغون الوصول إليه عن طريق الدعوات السرية. وهذه الفرقة المارقة التي تعتقد في الباب الموصل للإمام الثاني عشر الذي هو عندهم " المهدي المنتظر" الذي يَدْعونَ له كل صباح في أن يعجل الله خروجه وييسر له سبل الفرج. ولذلك فإننا نجد عند كل طائفة من طوائف الشيعة طريقة معينة توصل إلى الإمام الغائب، وعلى رأس هذه السبل منقذ، وهذا المنقذ هو الباب الذي يوصل بطريقة ما بالمهدي المنتظر.
ففي البداية ظهر رجل عراقي يسمى الشيخ الإحسائي يدعو إلى أفكار غريبة ومذهب جديد وأخذ يجوب البلاد داعيا لمذهبه، ووجد من إيران مرتعاً خصباً ليبشر بقرب ظهور الإمام الغائب ليملأ الأرض عدلاً بعد أن ملئت ظلماً وجوراً (والشيعة أكثر الناس تعلقاً بذلك فكل فرق الشيعة على اختلاف مذاهبها تؤمن بالإمام الغائب وينتظرون خروجه بين عشية وضحاها كما أسلفنا)، وأطلق على هذا المذهب اسم (المذهب الشيخي) نسبة إليه، وبلغ من انتشار دعوته، وتأثيره في نفوس الناس أن أحدث فتنة هائلة، واختلف الناس في شأنه اختلافا عظيماً فما وُجِد مكاناً إلا وفيه مؤيد له ومعارض، وقبل أن يمضي الإحسائي إلى ربه عام 1826أوصى بقيادة المذهب إلى تلميذه الإيراني كاظم الرشتى ( فهو وحده الذي يفهم مغزى كلامه على حد زعمه )، وكانت بالطبع أهم وصية له هي ترقب الإمام الغائب فقد اقترب موعد ظهوره بعد طول غياب (حيث دخل السرداب في مدينة سامراء عام 260هـ ولم يخرج منه بعد).
وهام كاظم الرشتى على وجهه بين إيران وكربلاء بالعراق مبشراً بما دعا إليه أستاذه ومعلمه باحثاً عن الإمام المزعوم، وقد كان الموت أقرب إلى الرشتى من أن يصل إلى ما كرّس حياته من أجله، وبعده آلت قيادة الدعوة إلى الملاّ حسين البشرؤي الذي لم يكن أهلا لها ولم تكن لديه الإمكانيات التي تؤهله لهذه الزعامة لذلك ظهر على الناس ببيان عجيب وغريب وهو ظهور الواسطة الذي عن طريقه يصل إلى الإمام الغائب وهو "الباب" الذي به يصل إلى طريق السلامة.. ومن هنا ظهرت "البابية".
(1) حديث موضوع، ذكره ابن الجوزي في الموضوعات(1/230)، والسيوطي في الجامع الصغير، وعزاه إلى ابن عدي، والطبراني، والحاكم. انظر ضعيف الجامع