بشارات التوراة بنبي الإسلام .. بقلم العلامة ابن القيم
قدم الإمام ابن القيم قراءة لمجموعة من النبوءات المثبتة في العهد القديم وبين إنطباق تلك النبوءات على نبي الإسلام صلى الله عليه وسلم، وهي قراءة جديرة بالقراءة من الموافق والمخالف لما فيها من موضوعية وإنصاف، لهذا حرصنا على إبراز هذه القراءة في موضوع مستقل ، قال رحمه الله تعالى :
فصل نصوص من التوراة
( الوجه الأول ) : قوله تعالى في التوارة " سأقيم لبني أسرائيل نبيا من إخوتهم مثلك أجعل كلامي في فيه ويقول لهم ما آمره به والذي لا يقبل قول ذلك النبي الذي يتكلم باسمي أنا أنتقم منه ومن سبطه " .
فهذا النص مما لا يمكن أحدا منهم جحده وإنكاره : ولكن لأهل الكتاب فيه أربعة طرق : أحدها حمله على المسيح وهذه طريقة النصارى ، وأما اليهود فلهم فيه ثلاثة طرق : أحدها أنه على حذف أداة الاستفهام ، والتقدير أقيم لبني إسرائيل نبيا من إخوتهم أي لا أفعل هذا ، فهو استفهام إنكار حذفت منه أداة الاستفهام .
الثاني أنه خبر ووعد ولكن المراد به شمويل النبي فإنه من بني إسرائيل ، والبشارة إنما وقعت بنبني من إخوتهم ، وإخوة القوم بنو أبيهم ، وهم بنو إسرائيل .
الثالث أنه نبي يبعثه الله في آخر الزمان يقيم به ملك اليهود ويعلو به شأنهم وهم ينتظرونه إلى الآن .
وقال المسلمون : البشارة صريحة في النبي صلى الله عليه وسلم العربي الأمي محمد بن عبد الله صلوات الله وسلامه عليه لا يحتمل غيره ، فإنها إنما وقعت ببني من إخوة بني إسرائيل لا من بني إسرائيل نفسهم ، والمسيح من بني إسرائيل ، فلو كان المراد بها هو المسيح لقال أقيم لهم نبيا من أنفسهم ، كما قال تعالى : { لقد من الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولا من أنفسهم } ، وأخوة بني إسرائيل هم بنو إسماعيل ، ولا يعقل في لغة أمة من الأمم أن بني إسرائيل هم إخوة بني إسرائيل ، كما إخوة زيد لا يدخل فيهم زيد نفسه .
وأيضا فإنه قال نبي مثلك وهذا يدل على أنه صاحب شريعة عامة مثل موسى ، وهذا يبطل حمله على شمويل من هذا الوجه أيضا ، ويبطل حمله على يوشع من ثلاثة أوجه : أحدها أنه من بني إسرائيل لا من إخوتهم ، الثاني أنه لم يكن مثل موسى ، وفي التوارة : " لا يقوم في بني إسرائيل مثل موسى " ، الثالث أن يوشع نبي في زمن موسى ، وهذا الوعد إنما هو بنبي بقيمه الله بعد موسى .
وبهذه الوجوه الثلاثة يبطل حمله على هارون ، مع أن هارون توفى قبل موسى ، ونبأه الله مع موسى في حياته ، ويبطل ذلك من وجه رابع أيضا وهو : أن في هذه البشارة أنه ينزل عليه كتابا يظهر للناس من فيه وهذا لم يكن لأحد بعد موسى غير النبي صلى الله عليه وسلم ، وهذا من علامات نبوته التي أخبرت بها الأنبياء المتقدمون ، قال تعالى : { وإنه لتنزيل رب العالمين * نزل به الروح الأمين * على قلبك لتكون من المنذرين * بلسان عربي مبين * وإنه لفي زبر الأولين * أو لم يكن لهم آية أن يعلمه علماء بني إسرائيل } .
فالقرآن نزل على قلب رسول الله صلى الله عليه وسلم وظهر للأمة من فيه ، ولا يصح حمل هذه البشارة على قلب المسيح باتفاق النصارى لأنها إنما جاءت بواحد من إخوة بني إسرائيل ، وبنو إسرائيل وإخوتهم كلهم عبيد ليس فيهم إله ، والمسيح عندهم إله معبود ، وهو أجل عندهم من أن يكون من إخوة العبيد ، والبشارة وقعت بعبد مخلوق يقيمه الله من جملة عبيده وأخوتهم، وغايته أن يكون نبيا لا غاية له فوقها وهذا ليس هو المسيح عند النصارى .
وأما قول المحرفين لكلام الله : إن ذلك على حذف ألف الاستفهام وهو استفهام إنكار والمعنى لا أقيم لبني إسرائيل نبيا . فتلك عادة لهم معروفة في تحريف كلام الله عن مواضعه والكذب على الله ، وقولهم لما يبدلونه ويحرفونه هذا من عند الله .
وحمل هذا الكلام على الاستفهام والإنكار غاية ما يكون من التحريف والتبديل ، وهذا التحريف والتبديل من معجزات النبي صلى الله عليه وسلم التي أخبر بها عن الله من تحريفهم وتبديلهم، فأظهر الله صدقه في ذلك لكل ذي لب وعقل ، فازداد إيمانا إلى إيمانه ، وازداد الكافرون رجسا إلى رجسهم .
( الوجه الثاني ) : قال في التوراة في ( السفر الخامس ) : " أقبل الله من سيناء ، وتجلى من ساعير ، وظهر من جبال فاران ، ومعه ربوات الأطهار عن يمينه " وهذه متضمنة للنبوات الثلاثة : نبوة موسى ، ونبوة عيسى ، ونبوة محمد صلى الله عليه وسلم ، فمجيئه من سينا وهو الجبل الذي كلم الله عليه موسى ونبأه عليه إخبار عن نبوته ، وتجليه من ساعير هو مظهر المسيح من بيت المقدس .
وساعير : قرية معروفة هناك إلى اليوم ، وهذه بشارة بنبوة المسيح .
وفاران : هي مكة ، وشبه سبحانه نبوة موسى بمجئ الصباح ، ونبوة المسيح بعدها بإشراقه وضيائه ، ونبوة خاتم الأنبياء بعدهما باستعلاء الشمس وظهور ضوءها في الآفاق، ووقع الأمر كما أخبر به سواء، فإن الله سبحانه صدّع بنبوة موسى ليل الكفر فأضاء فجره بنبوته ، وزاد الضياء والإشراق بنبوة المسيح ، وكمل الضياء واستعلن وطبق الأرض بنبوة محمد صلوات الله وسلامه عليهم.
وذكر هذه النبوات الثلاثة التي اشتملت عليها هذه البشارة نظير ذكرها في أول سورة { والتين والزيتون * وطور سينين * وهذا البلد الأمين } فذكر أمكنة هؤلاء الأنبياء وأرضهم التي خرجوا منها ، والتين والزيتون : والمراد بهما منبتهما وأرضهما وهي الأرض المقدسة التي هي مظهر المسيح، وطور سينين الذي كلم الله عليه موسى فهو مظهر نبوته ، و هذا البلد الأمين : مكة حرم الله وأمنه التي هي مظهر نبوة محمد صلوات الله وسلامه عليهم .
فهذه الثلاثة نظير تلك الثلاثة سواء قالت اليهود فاران هي أرض الشام وليست أرض الحجاز أم لم تقل . وليس هذا ببدع من بهتهم وتحريفهم فعندهم في التوراة : إن إسماعيل لما فارق أباه سكن في برية فاران وأنكحته أمه امرأة من أرض مصر .
ولا يشك علماء أهل الكتاب أن فاران مسكن لآل اسماعيل ، فقد تضمنت التوراة نبوة تنزل بأرض فاران ، وتضمنت نبوة تنزل على عظيم من ولد إسماعيل ، وتضمنت انتشار أمته وأتباعه حتى يملأوا السهل والجبل كما سنذكره إن شاء الله تعالى ، ولم يبق بعد هذا شبهة أصلا في أن هذه هي نبوة محمد صلى الله عليه وسلم التي تزلت بفاران على أشرف ولد اسماعيل حتى ملأت الأرض ضياء ونورا وملأ أتباعه السهل والجبل ، ولا يكثر على الشعب الذي نطقت التوراة بأنهم عادموا الرأي والفطانة أن ينقسموا إلى جاهل بذلك وجاحد مكابر معاند ، ولفظ التوراة فيهم : " إنهم لشعب عادم الرأي ، وليس فيهم فطانة " ، ويقال لهؤلاء المكابرين : أي نبوة خرجت من الشام فاستعلت استعلاء ضياء الشمس ، وظهرت فوق ظهور النبوتين قبلها ؟ ! وهل هذا إلا بمنزلة مكابرة من يرى الشمس قد طلعت من المشرق فيغالط ويكابر ويقول بل طلعت من المغرب ! ! .
( الوجه الثالث ) : قال في التوراة في ( السفر الأول ) : إن الملك ظهر لهاجر أم اسماعيل ، فقال : يا هاجر من أين أقبلت ؟ والى أين تريدين ؟ فلما شرحت له الحال قال : " ارجعي فإني سأكثر ذريتك وزرعك حتى لا يحصون كثرة ، وها أنت تحبلين وتلدين ابنا اسمه اسماعيل لأن الله قد سمع تذللك وخضوعك وولدك يكون وحش الناس وتكون يده على الكل ويد الكل مبسوطة إليه بالخضوع " .
وهذه بشارة تضمنت أن يد ابنها على يد كل الخلائق ، وأن كلمته العليا وأن أيدي الخلق تحت يده ، فمن هذا الذي ينطبق عليه هذا الوصف سوى محمد بن عبد الله صلوات الله وسلامه عليه ؟ ! .
وكذلك في السفر الأول من التوراة : " أن الله قال لإبراهيم إني جاعل ابنك إسماعيل لأمة عظيمة إذ هو من زرعك " وهذه بشارة بمن جعل من ولده لأمة عظيمة ، وليس هو سوى محمد بن عبد الله الذي هو من صميم ولده ، فإنه جعل لأمة عظيمة .
ومن تدبر هذه البشارة جزم بأن المراد بها رسول الله صلى الله عليه وسلم لأن اسماعيل لم تكن يده فوق يد اسحاق قط ، وكانت يد اسحاق مبسوطة اليه بالخضوع ، وكيف يكون ذلك وقد كانت النبوة والملك في اسرائيل وعيسى ، وهما ابنا اسحاق .
فلما بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم وانتقلت النبوة إلى ولد اسماعيل ودانت له الأمم وخضعت له الملوك وجعل خلافة الملك إلى أهل بيته إلى آخر الدهر وصارت أيديهم فوق أيدي الجميع مبسوطة إليهم بالخضوع .
وكذلك في التوراة في ( السفر الأول ) : " إن الله تعالى قال لإبراهيم إن في هذا العام يولد لك ولد اسمه اسحاق ، فقال إبراهيم ليت إسماعيل هذا يحيى بين يديك يمجدك ، فقال الله تعالى قد استجبت لك في إسماعيل وإني أباركه وأنمه وأعظمه جدا بما قد استجبت فيه ، وإني أصيره إلى أمة كثيرة وأعطيه شعبا جليلا " .
والمراد بهذا كله الخارج من نسله ، فإنه هو الذي عظمه الله جدا جدا وصيره إلى أمة كثيرة وأعطاه شعبا جليلا ، ولم يأت من صلب إسماعيل من بورك وعظم وانطبقت عليه هذه العلامات غير رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأمته ملأوا الآفاق وأربوا في الكثرة على نسل إسحاق .
( الوجه الرابع ) : قال في التوراة في ( السفر الخامس ) : " قال موسى لبني إسرائيل لا تطيعوا العرافين ولا المنجمين ، فسيقيم لكم الرب نبيا من إخوتكم مثلي ، فأطيعوا ذلك النبي " ولا يجوز أن يكون هذا النبي الموعود به من أنفس بني إسرائيل لما تقدم أن أخوة القوم ليسوا أنفسهم ، كما يقول بكر وتغلب ابنا وائل ، ثم يقول تغلب أخوة بكر وبنو بكر أخوة بني تغلب ، فلو قلت : أخوة بني بكر بنو بكر كان محالا ، ولو قلت لرجل أتيني برجل من أخوة بني بكر بن وائل لكان الواجب أن يأتيك برجل من بني تغلب بن وائل لا بواحد من بني بكر . انتهى من كتاب هداية الحيارى للإمام العلامة ابن القيم