مراد هوفمان: الإسلام في الألفية الثالثة
نبيل شبيب
تتسع القاعة لزهاء مائة وخمسين شخصًا، وامتلأت يوم 28/3/2000م عن آخرها، وبقي كثير من الحضور واقفًا طول ساعتين تقريبًا، وهم يستمعون إلى مراد هوفمان، يقدّم لكتابه الجديد الصادر باللغة الألمانية تحت عنوان"الإسلام في الألفية الثالثة" ويجيب على تساؤلاتهم ومداخلاتهم .
الحضور .. كانوا خليطًا متعدد الجنسيات والمشارب، منهم فريق من زملاء مراد هوفمان من فترة وجوده في السلك الديبلوماسي الألماني، ومنهم عدد من المسلمين والمسلمات، من مختلف الأعمار، من ذوي الأصل الألماني وسواهم ممن يحملون الجنسية الألمانية أو يحتفظون بجنسياتهم الأصلية، كما كان من الضيوف عدد لا بأس به من عامة المسيحيين، وكانت ضيفة الشرف في ذلك الجمع الحاشد المستشرقة الألمانية المعروفة آنا ماري شيمل .
الكاتب مراد هوفمان .. لا يحتاج إلى تعريف، فمنذ سنوات والمسلمون يتابعون مؤلفاته وكتاباته ونشاطاته الإسلامية، ويعلمون الكثير عنه منذ اعتنق الإسلام عام 1980م أثناء عمله في السلك الديبلوماسي الذي امتد 33 عامًا، وكانت آخر محطات عمله في المغرب، عندما أحدث ضجة لفتت الأنظار إليه داخل ألمانيا وخارجها بنشره عام 1996م كتـاب " الإسلام هو البديل"، الذي يعتبر من " أجرأ " ما نُشِر باللغة الألمانية فهو على النقيض من كتب عديدة أخرى، لا يعرض بعض جوانب الإسلام عرضًا تقليديًّا، ولا ينطلق من منطلق الدفاع عنه تجاه ما يتعرض له من صور عدائية، بل يطرحه باعتباره البديل الضروري والأفضل ممّا يعتنقه المجتمع الغربي من تصوّرات في مختلف الميادين. وقد استضافته بلدان عربية عديدة وشارك في مؤتمرات إسلامية مختلفة، ومايزال، وهو في التاسعة والستين من عمره، في الذروة من النشاط الذي عرف عنه .. كما ظهر أثناء تقديمه لكتابه الجديد، الذي يخطو به خطوة أخرى في تقديم الإسلام كبديل، فيؤكّد عبر الحوار المنهجي المتوازن أن فيه الحلول لما يواجهه المجتمع الغربي الآن من مشكلات اجتماعية وثقافية مستعصية .
وأول ما أبرزه في حديثه كان إشارته إلى الإقبال على الإسلام في صفوف الناشئة والشباب، داخل المجتمع الغربي، وفي ظهور هذا الإقبال بقوة مع نهاية القرن الميلادي العشرين، الذي شهدت بدايته تنبؤات من جانب بعض المستشرقين بأنه لم يعد له وجود، ولن يستطيع الظهور ثانية إبان إسقاط الخلافة في إسطنبول. وهي المدينة التي يعيش فيها مراد هوفمان الآن، المتزوج من امرأة مسلمة تركية، بالإضافة إلى إقامته الرسمية في مدينة "آشافينبورج" بألمانيا.
ولم يلتزم مراد هوفمان في حديثه أسـلوب التبرير لبعض المظاهر التي لا تلتقي مع أصـول الإسـلام، بل على النقيض من ذلك، أبرز من خلال أمثلة واقعية كيـف أن فريقـًا من المسـلمين القادمين من بلدانهم الأصلية إلى الغرب، قد تبنى التصورات الغربية حتى النخاع .. وفريقًـا آخر اتخذ موقفًا متشددًا رافضًا لسائر ما حوله، مؤكدًا من وراء ذلك أن الطريق الوسط هو الذي يلتقي مع " دين الوسطية " ويتفق مع الانفتاح على المنجزات العلمية والتقنية.. دون الانسياق وراء تصورات منحرفة، أثبتت النتائج خطأها، وفي الإسلام الدواء الشافي لها، سواء من حيث تعامله مع العلم والعلماء، أم من حيث تعامله مع الأسرة .. والشبيبة.. والأطفال .. أو تعامله مع مختلف المشكلات الاجتماعية الكبرى المعاصرة، فضلاً عن ميزته الكبيرة المتمثلة في اطمئنان معتنقيه إلى أن النصوص الملزمة بين أيديهم، هي بعينها تلك النصوص التي جمعها المسلمون قرآنًا وحديثًا منذ العهد الأول، وكان التحقيق فيها على أعلى المستويات العلمية المنهجية.
وكان مراد هوفمان يجد التأييد من خلال النقاش الحي الذي تلا الحديث، ومن ذلك شهادة آنا ماري شيمل بموافقتها على ما يقول من خلال ما عرفته عن الإسلام وما عايشته في بعض البلدان الإسلامية، حتى إن بعض النساء المسلمات الحاضرات تساءلن فيما بينهن، ما إذا كانت شيمل مسلمة أو كيف لم تعتنق الإسلام حتى الآن، وعندما تحدث عن موقع المرأة في الإسلام، وأبرز أن هذا بالذات ما دفع كثيرا من النساء الغربيات إلى اعتناقه، وجد التأييد لذلك من نساء مسلمات ألمانيات بين الحضور، وكما استشهد بعدد من العلماء والدعاة المصلحين وهو يتحدث عن النهضة الإسلامية المعاصرة، منذ عهد الأفغاني ومحمد عبده، إلى عهد حسن البنا ويوسف القرضاوي، فقد استشهد في حديثه عن المرأة وموقعها في الإسلام بكلمات للشيخ الداعية القرضاوي، يجد القارئ بعضها أيضًا في الفصل الذي خصص له زهاء عشرين صـفحة تحت عنـوان "مساواة في الحقوق أم مساواة.. " .. من أصل 286 صفحة، طرح الكاتب فيها تصوراته في صيغة نقاش، بدأه بفصلين عن الصحوة الإسلامية في الغرب والشرق، مقارنًا ذلك في الفصل الأول بخروج كثير من أتباع الكنيسة عليها، وعزوفهم عنها، ومشيرًا إلى الفطرة البشرية في الحاجة إلى العقيدة القويمة، ومقدمًا للفصل بكلمات منها قول صموئيل هينينجتون: ( إن العقيدة التي تقول إن الشعوب غير الغربية، ينبغي أن تأخذ بالقيم والمؤسسات والثقافات الغربية، عقيدة غير أخلاقية)، وهو اختيار يرُدُّ بصورة غير مباشرة على نظرية الكاتب الأمريكي المعروفة بشأن صراع الحضارات. ويشبه ذلك اختيار الكاتب لعبارة سلمان رشدي وهو يستهل بها الفصـل الثاني من الكتاب : ( يجب أن يكون هذا هو العصر الذي نتجاوز فيه الحاجة إلى الدين)، فكل ما في الفصل يثبت مدى خواء تلك العبارة وتناقضها مع الواقع المنظور.
ومن بين الفصول الخمسة عشر في الكتاب يبرز أيضًا الفصل الذي أعطاه عنوانًا بمعنى ( الديمقراطية ونظام الشورى ) استهله بكلمة الشيخ القرضاوي : ( من يقول إن الديمقراطية إلحاد، لا يفهم شيئًا من الإسلام ولا الديمقراطية)، وقد ناقش في هذا الفصل عددًا من الشبهات، بشأن فصل الدين عن الدولة، وحقيقة عدم تطبيق ذلك في الدول الغربية نفسها كألمانيا، بالصورة التي شاع نشرها في بلدان إسلامية، كما تناول بالحديث شبهات أخرى تحيط بمعنى الحاكمية لله، قبل أن يشرح عددًا من القواعد الأساسية للشورى في الإسلام، وصورًا من ممارساتها التطبيقية منذ العهد النبوي، وعددًا من الاستشهادات من علماء معاصرين، لينتهي بتبني قول من يقول بديمقراطية إسلامية، وإن كان عنوان الفصل يشير إلى تبنيه مصطلح الشورى الإسلامي أيضًا.
وكما هو الحال مع الكتاب الذي يتجنب الأسلوب الاستفزازي في طرح موضوع لا يتوارى فيه معنى " التحدي " تجاه ما يعتبر من البدهيَّـات في الغرب، فيطرح على مجتمعه الأخذ بالإسلام مدخلاً إلى النجاة من مشكلاته الاجتماعية في ألفيته الميلادية الثالثة، كذلك فقد كان النقاش الدائر عقب تقديم الكتاب متميزًا بالحوار المقنع، الذي يتجنب الاستفزاز، أو ردود الفعل على بعض الاستفزازات، وقد كانت نادرة أثناء اللقاء، ولعل أبرزها ما كان في نهايته عندما ذكرت امرأة من الكنيسة أن في الإمكان – إذن – الأخذ في الغرب بالدين المسيحي مع تطوير ما ينبغي تطويره تطبيقيًّا، فاكتفى مراد هوفمان بالجواب " الله أعلم "، وكان الجواب كافيًا بالفعل، فالاقتناع بما تحدث به في اللقاء كان ظاهرًا على وجوه الحاضرين، من مسلمين وغير مسلمين، بغض النظر عن مدى اتباعه أو عدم اتباعه
.
منقول من موقع اسلام اون لاين