منزلة الأنبياء بين النصارى والمسلمين
للسيد رشيد رضا
عصمة الأنبياء والخلاص
[ لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلاَ أَمَانِيِّ أَهْلِ الكِتَابِ مَن يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ وَلاَ يَجِدْ لَهُ مِن دُونِ اللَّهِ وَلِيًًا وَلاَ نَصِيرًا * وَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُوْلَئِكَ يَدْخُلُونَ الجَنَّةَ وَلاَ يُظْلَمُونَ نَقِيرًا ]( النساء : 123-124 ) .
نحن طلاب مودة والتئام، وأن المناقشات في الأديان والمذاهب قليلة الجدوى ، وربما أضرت ولم تنفع ؛ لأن أكثر الناس مقلدون ، وما أضيع البرهان عند المقلد ! ! وقلنا : إن هؤلاء المبشرين الإنجيليين اضطرونا إلى الرد على تمويههم بما يرسلون إلينا من الكتب والجرائد التي تطعن في عقائد المسلمين ، ويلحون علينا بأن نرد عليها ، وقد انضم إلى إلحاحهم طلب كثيرين من المسلمين يقولون ليس في القطر مجلة إسلامية أنشئت لخدمة الدين مع العلم إلا المنار ، فيجب عليها رد الشبهات التي توجه إلى الإسلام ، فبهذا وذاك صار من الواجب علينا بحكم ديننا الرد على هذه الكتب والجرائد ونأثم شرعًا بتركه .
( كلما داويت جرحًا سال جرح ) كنا نردُّ على آخر كتاب لهم جمع خلاصة شبهاتهم ، وإذا نحن بجريدة ( بشائر السلام ) ترد إلينا من غير طلب ولا سبق مبادلة ، ثم في هذه الأيام أرسلت إلينا جريدة ( راية صهيون ) الإنجيلية مكتوبًا عليها : ( أرجو الاطلاع على مقالة خطية الأنبياء والرد عليها ) .
تكاثرت الظباء على خراش فما يدري خراش ما يصيد ولكن القليل من آيات الحق يكفي لإزهاق الكثير من الباطل ، لذلك نقول : ابتداء هذه المقالة ( إن المسلمين يقولون : إن الله أرسل أنبياء كثيرين إلى العالم وأعظمهم ستة ، وهم آدم ونوح وإبراهيم وموسى وعيسى - أي المسيح - ومحمد ، وكثيرون يقولون بأن كل هؤلاء الأنبياء كانوا بلا خطية ، ولذلك كانوا قادرين على إيهاب الخلاص لتلاميذهم ؛ ولكن لو كانوا خطاة فما كانوا يتيسر لهم ذلك ، إذ لا يمكن للخطاة أن يخلصوا الآخرين من الخطية ) هذا ما قاله بحروفه ، ثم تعقبه بدعوى أن من عدا المسيح من هؤلاء الأنبياء كانوا عصاةً مذنبين مستدلاًّ بما جاء في قصصهم في كتب العهد العتيق .
فأما معصية آدم فمعروفة، وأما نوح فذكر أنه شرب الخمر ، واعترف الكاتب بأن التوراة لم تذكر له خطيئة غير هذه ؛ ولكنه جزم بأنه لابد أن يكون خاطئًا ، وأما إبراهيم ( فقد ورد عنه أنه كذب مرتين من باب الخوف من الناس ) وأما موسى فذكر الكاتب من خطيئته أنه ( حينما أمره الله أن يذهب إلى فرعون قد أظهر خوفًا عظيمًا وجبنًا زائدًا جعل الله أن يغضب عليه ، وحينما كان بنو إسرائيل في البرية بعد خروجهم من أرض مصر قد فرط موسى مرة بشفتيه حتى أن الله لم يسمح له نظرًا لهذا الذنب أن يدخل أرض كنعان ، بل جعله أن يموت في القفر ) واستدل على خطيئاتهم من القرآن العزيز بما ورد من الآيات في طلبهم المغفرة إلا المسيح فإنه لم يرد عنه ذلك ، وختم المقالة بعد كلام طويل في الثناء على السيد المسيح عليه الصلاة والسلام بدعوة المسلمين إلى الإيمان به - وهم المؤمنون حقًّا - والاتكال عليه في خلاصهم - وهم لا يتوكلون إلا على الله وحده - ويعني بالإيمان به أن يكون موافقًا لمذهب بروتستنت فإنه كتب نبذة في الصفحة الأولى من هذا العدد بأن سائر الطوائف ( مسيحيون بالظاهر ، وأما في الحقيقة فليسوا كذلك ) وأن الله سيلقيهم في النار التي لا تطفأ ، أما الرد على المقالة فمن وجوه : ( الأول ) أن أفضل الأنبياء عند المسلمين نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمد عليهم الصلاة والسلام ، ويسمونهم أولي العزم ، وليس آدم منهم لقوله تعالى [ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً ]( طه : 115 ) ومن العلماء من منع التفاضل بين الرسل ، وقال : إن ذلك لا يُعرف إلا بالوحي .
( الثاني ) أن المسلمين لا يعتقدون أن الأنبياء هم الذين ينجون الناس بسبب عصمتهم من العذاب ، ويدخلونهم بجاههم في رحمته ؛ وإنما يعتمدون على الله تعالى وحده في ذلك ، ويعتقدون أن سبب النجاة الإيمان الصحيح والعمل الصالح ، وأن الأنبياء ما أرسلوا إلا مبشرين ومنذرين ، فهم يُعَلِّمون الناس الإيمان الصحيح المقبول عند الله تعالى والعمل الصالح الذي يرضيه ، فمن آمن وعمل صالحًا ترجى له النجاة بفضل الله تعالى الذي وفقه وهداه ، ومن كفر بعد بلوغ الدعوة بشرطها فلا يزيد الظالمين كفرهم إلا خسارًا .
( الثالث ) أن هؤلاء المعترضين لم يعرفوا معنى عصمة الأنبياء عند المسلمين ، فتوهموا أنهم يقولون بذلك لإثبات أن الأنبياء ينجون الناس ؛ لأنهم معصومون ، فنجيبهم بأن المسلمين قام عندهم الدليل العقلي على ذلك ، وهو أن الله تعالى جعل الأنبياء هداة ومرشدين ليُقتدى بهم ، فلو ابتلاهم بالمعاصي التي هي مخالفة الشريعة التي يأتون بها لما كانوا أهلاً للهداية ؛ لأن الله أودع في فطرة البشر أن يقتدوا بالأفعال أكثر من الأقوال ، وقد أخبرونا أن الله تعالى أمر بالاقتداء بهم ، فلو كانوا يرتكبون مخالفة أمره لكان في أمره بالاقتداء بهم تناقض وأمر بالشر وهو محال ، وليس معنى عصمتهم أنهم مخالفون للبشر في جميع أطوارهم فلا يخافون مما يخيف في الدنيا ، ولا يتألمون مما يؤلم ولا يتوقون الشر ( سنوضح هذا المقام في الأمالي الدينية بعد ) .
( الرابع ) أنه لم يُنقل عن سيدنا نوح في العهد العتيق إلا شرب الخمر ، وفي هذه الأناجيل أن المسيح شرب الخمر أيضًا ، فإن قلنا بأن من لم يُنقل عنه أنه عصى يصلح أن يكون مخلِّصًا للناس ، فنوح يصلح لذلك كالمسيح ، بل إن من صالحي هذه الأمة المحمدية كثيرين لم تحفظ عليهم المعصية .
( الخامس ) ما نقله عن سيدنا إبراهيم مصرح بأنه كان للضرورة وإرادة التخلص من شر وظلم أكبر من كذبة في الظاهر لها تأويل في نفس القائل كقول إبراهيم عن زوجته : ( هذه أختي ) يعني في الدين ، ومن القواعد المعقولة والمشروعة أنه إذا تعارض ضرران يجب ارتكاب أخفهما ، فإذا حاول ظالم أن يغتصب امرأتك ليسترقها أو يفجر بها وقدرت أن تنجيها منه بكلمة كاذبة - وجب عليك ذلك ، وتكون الكذبة معصية في الصورة طاعة في الحقيقة .
( السادس ) أن ما ذكره عن سيدنا موسى من الخوف ليس فيه معصية لله ومخالفة لشريعته ؛ وإنما هو شأن من الشؤون البشرية الجائزة وهو خوف هيبة وإجلال للوظيفة العظيمة التي كُلِّف بها .
( السابع ) إذا لم يصح الدليل العقلي على عصمة الأنبياء ، فعدم نقل المعصية عن المسيح لا ينافي وقوعها منه ؛ لأنه لا يلزم من عدم العلم بالشيء عدم وجوده في نفسه .
( الثامن ) أن طلب الأنبياء المغفرة من الله تعالى لا يدل على أنهم كانوا بعد النبوة عصاة مخالفين لدين الله تعالى ؛ ولكنهم لمعرفتهم العالية بالله تعالى ، وما يجب له من الشكر والتعظيم يعدون ترك الأفضل إذا وقع منهم في بعض الأوقات ذنبًا وتقصيرًا ، ألم تر أن للمقربين من الملوك والسلاطين ذنوبًا غير مخالفة القوانين يطلبون من الملوك العفو عنها ( ولله المثل الأعلى ) وسيأتى إيضاح ذلك في الأمالي الدينية .
( التاسع ) إذا فرضنا أن دليل المسلمين على عصمة الأنبياء غير صحيح ، فلا حجة للمسيحيين عليهم في شيء ؛ وإنما ذلك شبهة على الدين المطلق .
________________________
المنار : 4/21/ص816