ج 4:الرد على شبهات تقديم العقل على النقل) منـزلة العقل فى الإسلام..)
من كتاب :نقض أصول العقلانيين
كتبه / سليمان بن صالح الخراشي
- نقول إن أبعاد تلك المنـزلة التي جعلها الإسلام للعقل تتلخص فيما يأتي :
1) تعظيم الإسلام لعمل العقل في سبيل الوصول إلى الحقائق بطرق شتى منها:
أ- الثناء على أصحاب العقل الذين يستعملونه في الحكم على الأشياء والتعامل معها: فالله سبحانه يخاطب أصحاب العقول حينما يذكر أحكامه لأنهم هم الذين يفهمون أنها أحكام عدل وحق (ولكم في القصاص حياة يا أولي الألباب لعلكم تتقون) ().
وكذلك حينما يأمر بشيء فإنه يخصهم بالخطاب لأنهم يسارعون إلى امتثال أمر الله ، والنهوض به، يقول سبحانه (وتزودوا فإن خير الزاد التقوى واتقون يا أولي الألباب) ()،فقد خص أولي الألباب بعد حث جميع العباد على التقوى().
ومدحهم بأنهم هم الذين يتذكرون موجبات الهدى، ودلائله، وينتفعون بها خلاف اللاهين الغافلين، يقول سبحانه (وما يذكر إلا أولوا الألباب) ()، وأثنى عليهم بأنهم هم الذين يعتبرون بقصص التاريخ وحوادث الحياة فيتخذون منها عبرة (لقد كان في قصصهم عبرة لأولي الألباب) ()، وقال سبحانه بعد قصة لوط وقومه (ولقد تركنا منها آية لقوم يعقلون) () .
ب- جعله مدخلاً تأسيسياً لإثبات أخطر قضايا الدين وهي العقيدة: فقد جعل القرآن هذا العقل إذا تجرد عن الهوى والمصلحة والتأثر بالمحيط الخارجي الفاسد هو الطريق الموصل إلى الحق ، وإثبات صحة العقيدة، وصدق النبوة يقول سبحانه (قل إنما أعظكم بواحدة أن تقوموا لله مثنى وفرادى ثم تتفكروا ما بِصاحبكم من جِنّة، إن هو إلا نذير لكم بين يدي عذاب شديد) ().
وإنها لدعوة جليلة إلى إعمال الذهن، وتشغيل الطاقة العقلية، لتقتنع بالحق فتأخذ به ، وتعرف الزيف فترفضه، لا دعوة إلى إطفاء مصباح العقل، والاعتقاد على عمى فيما لا يقبله العقل كما في المسيحية الكنسية .
ج- ذم المقلدين الذين ألغو عقولهم:
أزرى القرآن الكريم بمن عطلوا تفكيرهم وأغلقوا منافذ الهداية والمعرفة، وأخذوا أمور حياتهم عن طريق التقليد، والتبعية، والوراثة لآبائهم، ولما وجدوا عليه مجتمعاتهم ، قال سبحانه (وإذا قيل لهم اتبعوا ما أنزل الله قالوا بل نتبع ما ألفينا عليه آباءنا ، أولو كان آباؤهم لا يعقلون شيئاً ولا يهتدون، ومثل الذين كفروا كمثل الذي ينعق بما لا يسمع إلا دعاء ونداءً صم بكم عمي فهم لا يعقلون) () .
فالله يشبههم بالأنعام التي تسمع صوت المنادي، ولا تفقه ما يقول، كل هذا بسبب جمودهم على ما هم عليه، وتعطيل عقولهم عن التفكر لتبحث عن الحق فتتبعه، فكان نتيجة اهدارهم هذه النعمة التي تميزوا بها عن البهائم أن أصبحوا مثلها ، بل أحط منـزلة (إن شر الدواب عند الله الصم البكم الذين لا يعقلون) () .
د- بيان عظيم ثمرات استخدام العقل :
وقد بين القرآن أن من أبرز النتائج التي يحصل عليها العقل المتجرد إذا تفكر وتدبر:
1- التوصل إلى الإيمان بوحدانية الله ، والشعور بعظمته سبحانه، ومعرفة الحق الذي خلقت به السموات والأرض، يقول سبحانه (إن في خلق السموات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولي الألباب الذي يذكرون الله قياماُ وقعوداً وعلى جنوبهم ويتفكرون في خلق السموات والأرض ، ربنا ما خلقت هذا باطلاً سبحانك فقنا عذاب النار) ().
ولذلك يعقب سبحانه كثيراً بعد ذكر آياته في الأنفس والآفاق بقوله (إن في ذلك لآيات لقوم يعقلون) – وكفى بهذه النتيجة نفعاً وعظمة .
2- الثبات على الحق الذي توصل إليه، والاطمئنان القلبي الذي يصاحبه، خلافاً للذي انعدمت بصيرته فهو في أمر مريج، لا يستقر على حال، ولا يطمئن إلى وجهة معينة، فهو مشتت تتنازعه الأهواء، يقول سبحانه (أفمن يعلم أنما أنزل إليك من ربك الحق كمن هو أعمى إنما يتذكر أولوا الألباب) ().
هـ- حثه على العلم والمعرفة التي تقود الإنسان في حياته العملية خلافاً لما عليه الجهلة:
ولقد أثنى الله سبحانه على العلماء ورفع مقامهم، فقرنهم سبحانه بذكره حينما قال (شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة وأولو العلم قائماً بالقسط لا إله إلا هو العزيز الحكيم) ().
وقال سبحانه (إنما يخشى الله من عباده العلماءُ) () .
وقال سبحانه (يرفع الله الذي آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات)() .
وحث العلماء على إشاعة المعرفة بين الناس، وتعليمهم الحق (إن الذين يكتمون ما أنزلنا من البينات والهدى من بعد ما بيناه للناس في الكتاب أولئك يلعنهم الله ويلعنهم اللاعنون. إلا الذين تابوا وأصلحوا وبينوا فأولئك أتوب عليهم وأنا التواب الرحيم) () .
و- الحث على تحريك العقل، واستثارة طاقاته في كل وقت، وعلى كل حالة بشتى الأساليب : (قل انظروا ماذا في السموات والأرض) () (أولم يتفكروا في أنفسهم) () (أولم ينظروا في ملكوت السموات والأرض وما خلق الله من شيء…)() الآية .
2) موافقة الإسلام للفطرة وإقناعه للعقل :
خلق الله الإنسان على هيئة خاصة به لا يشترك فيها معه شيء من مخلوقات الله –(فجاء فذاً في هذا الكون، إن في تكوينه العضوي، أو في خاصيته الجوهرية- التي هي التفكير العقلي) () .
ومن مميزات فردية هذا الإنسان أن الهيئة التي فطر عليها معجزة حيرت العلم القديم والحديث " حيث تمتزج الفرديات العقلية، والتركيبية والأخلاطية بطريقة غير معروفة للإنسان"() .
كذلك فإن مما لاحظه علم الإنسان أن هذا المخلوق يشتمل على عوالم متفردة متعددة بتعدد أفراده، فكل فرد له خاصية لا يشاركه فيها غيره من بني البشر "كل فرد يدرك أنه فريد، وهذه الوحدانية حقيقية"() .
ولقد قرر القرآن الكريم من قبل هذه الحقيقة، حقيقة تفرد الإنسان في خلقه وطبيعته ووظيفته:
(وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة) ().
(ولقد كرمنا بني آدم وحملناهم في البر والبحر ورزقناهم من الطيبات وفضلناهم على كثيرٍ ممن خلقنا تفضيلاً) () .
(لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم) () .
والإنسان بهذه الطبيعة الخاصة التي فطر عليها ، والسنن التي قام عليها وجوده يحتاج إلى نظام حياة خاص به يتسق مع ما فطر عليه، ويراعي هذه السنن فلا يصطدم معها .
وهنا تبدو ميزة كبرى للإسلام عن غيره من المذاهب باتساقه مع فطرة الإنسان وتكوينه العقلي، يقول سبحانه (فأقم وجهك للدين حنيفاً فطرة الله التي فطر الناس عليها ، لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم ولكن أكثر الناس لا يعلمون) ().
قال العلماء "الفطرة هي الخلقة والهيئة التي في نفس الطفل، التي هي معدة، ومهيأة لأن يميز بها مصنوعات الله ، ويستدل بها على ربه، ويعرف شرائعه ويؤمن به" ().
والله سبحانه هو الذي خلق هذا الإنسان ، وهو أعلم بالسنن ، والأسرار التي خلقه عليها ، وقد أنزل له نظاماً شاملاً لجوانب حياته، ومطابقاً لهذه الفطرة وهو الإسلام" إذ هو في سننه وفروضه وأحكامه ومبادئه يشمل الفطرة كلها ويطابقها تمام المطابقة" ().
فالإنسان أي إنسان يحس بجوع روحي عارم، ولم تستطع فلسفة أو منهج بشري أن يسد هذا الجوع ، أما الإسلام فقد أشبع هذه الروح وسد هذه الجوعة وهذه حقيقة أقر بها حتى غير المسلمين، تقول الباحثة فاجليري (إن الناس ليشعرون بالحاجة إلى الدين، ولكنهم في الوقت نفسه يريدون منه أن يكون ديناً يفي بحاجاتهم، قريباً من مشاعرهم، يقدم الأمن والراحة للحياة الدنيا كما يقدمها للآخرة ، ويلبي الإسلام هذه الحاجات بدقة لأنه عقيدة وفلسفة للحياة، فهو يعلم التفكير الصحيح ، والتصرف السليم، والكلام الأمين ، ولذا يجد طريقه في غير صعوبة إلى كل من العقل والقلب الإنساني) ().
ولعل من أبرز الجوانب التي جاء الإسلام بالقول الفصل فيها، وقد تاهت البشرية فيها، ولا تزال تائهة ضالة جانب تصور الكون المشهود وما وراءه .
ذلك أن هذا الكون من حولنا ينطوي في تضاعيفه على أسرار كبيرة في بدئه ومصيره، والهدف من ورائه، والعقل البشري طلعة يقف أمام المجهول ليستبين منه ما استطاع غير قانع بالعالم المحس ومظاهره الواضحة، ولقد جاء الإسلام يحل هذه الألغاز فأعطى تصوراً عن الكون والحياة وخالقهما – يلبي فطرة الإنسان، ويجد فيه العقل ما يشبع نهمته - .
وقد توهم البعض أن العلم المادي الذي قفز قفزاته الكبيرة إبان نهضة الغرب المعاصرة، سيجهز على الدين تماماً ، ذلك أنه سيحل ألغاز الكون كلها وسيكتشف مجهولاته جميعها، فعند ذاك ينطفئ ذلك الشوق العقلي إلى ما وراء المجهول ، وبذا تزول غريزة التدين .
ولكن العلم أثبت – واقعا- عكس هذه النتيجة، إذ كلما زاد ما يكتشفه العلم من دلائل عظمة الكون وامتداده كلما انفتح معه أفق أوسع للسؤال عما يكتنفه من أسرار وغوامض " وأقرب مثال لذلك الذرة التي كانت إلى عهد قريب متماثلة الأجزاء ، فظهر أنها مركبة من نوعين من الكهرباء – سالب وموجب- وأنه من الممكن تحطيمها وفصل أجزائها، فتعود قوة مجردة – طاقة – تحتاج إلى بحث عن مصدرها خارج هيكل الذرة المحطم() .
وهكذا يعود الإنسان بعد تطوافه في الكون أكثر تساؤلاً عما يحيط به من رموز وأسرار ، ويبقى "الإسلام" الذي أنزله خالق الكون والحياة والعليم بهما هو الذي يقدم الحل الناجع لهذه المشكلة، فيقنع العقل ويريحه من القلق والشقاء الذي يساوره أثناء وقوفه أمام هذه المجهولات.
3) محاربة الإسلام للخرافات والعوامل التي تحطم العقل :
جاء الإسلام والمجتمعات البشرية –خاصة العربية- تعج بأنواع الخرافات، والشعوذة، والأوهام التي استعبدت عقول الناس، وتلاعبت بها، من كهانة، وعيافة، وعرافة، وسحر، واعتقاد بتصرف بعض المخلوقات في أجزاء من هذا الكون، كالجن، والشياطين ().
فحارب الإسلام هذه الخرافات، وحرر العقل البشري من سيطرتها، وتلاعبها به ، جاء في صحيح مسلم ((من أتى عرافاً فسأله عن شيء لم تقبل له صلاة أربعين ليلة)) (). قال العلماء : هو من يذهب إلى من يدعي معرفة الأمور الغيبية، فيسأله على وجه التصديق لما يقول ().
وقال e ((لا عدوى ولا طيرة ولا هامة ولا صَفَر وفر من المجذوم فرارك من الأسد)) () .
فقوله : لا عدوى : نهي لهم عن الاعتقاد بأن المُعدي يخلق العدوى بالصحيح كما كان سائداً عندهم.
ونهاهم عن التشاؤم بالطير، حيث كانوا ينصرفون عن المضي في مقاصدهم بسبب اتجاه الطير إلى الجهة المخالفة لاتجاههم، أو بسبب نوع الطير الذي يقابلهم فور خروجهم.
والهامة : البومة: وكانوا يتصورون أن من وقعت على داره، فإنها تنذره بموت أحد أفراد عائلته- أو أن المقصود ما كانوا يتصورونه من أن روح المقتول- تخرج من القبر وتصيح مطالبة بأخذ الثأر من القاتل.
وصَفَر: هو الشهر المعروف، وكانوا يعتقدون أنه شهر دماء ، وقتل، فبين النبي e أنه وقت كسائر الأوقات لا يقتضي بذاته شؤماً ولا ضرراً إلا ما يفعله الإنسان .
وفي حديث آخر عن ابن مسعود قال : سمعت رسول الله e يقول: ((إن الرقى والتمائم والِتَولة شرك)) () .
التميمة : شيء يعلق على الأولاد يعتقدون أنه يدفع عنهم الشياطين.
والتولة: شيء يصنع، يزعمون أنه يحبب المرأة إلى زوجها .
عدا عن هذا فإن القرآن والسنة حينما يعرضان حوادث الطبيعة والكون فإنهما يبعدان الخرافات، ويربطان بين الحوادث ربطاً موضوعياً- بين المقدمات والنتائج، وبين الأسباب والمسببات -كما في قوله سبحانه (الله الذي يرسل الرياح فتثير سحاباً فيبسطه في السماء كيف يشاء ويجعله كسفاً فترى الودق يخرج من خلاله) ().
وعندما كسفت الشمس في عهد الرسول e وذلك في اليوم الذي مات فيه (إبراهيم) ابن رسول الله e ظن الناس أن كسوف الشمس كان بسبب موت إبراهيم ، ووصل هذا التعليل إلى النبي e فقال ((إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله لا ينكسفان لموت أحد ولا لحياته))() .
وحارب النبي e اعتقاد أن الأفلاك والكواكب تتصرف بإنزال المطر إذا رضيت على من تشاء .. وجعله شركاً ممن اعتقده ().
4) حفظ الإسلام للعقل ومنع الاعتداء عليه :
جاءت الشريعة الإسلامية لتحفظ على الإنسان تلك الأسس التي تقوم عليها حياته ، وهي ما يسميها الفقهاء " الكليات الخمس" : الدين ، والعقل، والنفس، والمال، والنسل().
أما العقل –مدار حديثنا – فقد شدد الشرع في العقوبة على من تعدى عليه :
الصفحات [1] [ 2]