الحقيقة بين الدين والعلم
من كتاب : صِرَاعُ مَعَ المَلاحِدَة
حتى العظم
تأليف
عبد الرحمن حسن حبنّكة الميداني
حاول الناقد (د. العظم) بمغالطاته وافتراءاته الكثيرة – أُسوة بسائر ملحدي هذا العصر – أن يثبت أن الدين مناقض للعلم ، ليتوصل من ذلك إلى نقض الدين كله جملة وتفصيلاً ، وقد جعل هذه النقطة هي المحور الأساسي الذي دار حوله في محاربته للدين ، ونقده المزعوم المزور للفكر الديني ، ونقضه المزيف الكاذب لقضية الإيمان بالله من أساسها .
من أجل ذلك عقدت هذا الفصل "الحقيقة بين الدين والعلم" قبل الدخول مع العظم في المعركة الجدالية ، حول النقاط التفصيلية التي أثارها في جدلياته غير الشريفة وغير الأمينة ، لأكشف فيه مواقع النظر السليم إلى كل من العلم والدين ، ولأحدِّد فيه أبعاد كل منهما ، ومواطن الشبهات التي قد يقع فيها هؤلاء أو هؤلاء ، وبذلك ينكشف للقارئ منهج الحق قبل أن يشهد في هذا الكتاب فصول الصراع الجدلي على النقاط التفصيلية التي أثارها العظم ، فمن عرف قواعد الصواب والخطأ في موضوع ما قبل أن يشهد حلبة الصراع فيه استطاع في نفسه أن يكون حكماً ، ويعرف المحق من المبطل ، ويعرف المستقيم المقسط من المراوغ المخادع .
تجوزاً في التعبير ، ومتابعة لما هو دارج على ألسنة الناس ، أضع هذا العنوان (الحقيقة بين الدين والعلم) لهذا الفصل ، مع أن الحقيقة أن الدين الحق ليس قسيماً مغايراً للعلم ، وإنما هو علم عن طريق الوحي ، وما جاءت به طريق الدِّين اليقينية هو من قبيل الحقائق العلمية ، وللحقائق العلمية طرق إثبات أخرى هي الوسائل الإنسانية البحتة .
فالمقابلة إذن ليست بين الدِّين والعلم ، ولكن بين طرق اكتساب العلم الذي يأتي به الدين ، وطرق اكتساب المعرفة الإنسانية البحتة ، كطريق الحس المباشر لإدراك المعارف ، وهو الإدراك القائم على المشاهدة والتجربة ، وكطريق العقل لاستنباط المعارف التي لا تُدرك بالحس المباشر ، وهذه الوسائل الإنسانية المختلفة وأدواتها التي تستخدمها ، هي منحة من الله لعباده ، حتى يستخدموها في اكتساب المعارف والعلوم ، ولذلك كان الإنسان مسؤولاً عنها عند الله في مجال اكتساب العلم ، فقال الله في سورة (الإسراء/17 مصحف/50 نزول):
{وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ ٱلسَّمْعَ وَٱلْبَصَرَ وَٱلْفُؤَادَ كُلُّ أُولـٰئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً}
وهذه السوائل الإنسانية تقدم بدورها شهادة يقينية بالحقائق التي توصلت إليها ، أو شهادة ترجيحية بالمعارف التي ترجحت لديها بغلبة الظن ، وكذلك الوحي الجامع لطرق اكتساب العلم الذي يأتي به الدين ، هو أيضاً منحة من الله لعباده ، وقد جعله الله للناس طريقاً لاكتساب طائفة من العلوم ، وهي التي يطق عليها اسم علوم الدين ، ونلاحظ أن أهم ما يختص بها العلوم الغيبية التي لا تدركها الحواس الإنسانية ، ولا تستطيع العقول بوسائلها إثابتها مستقلة عن أنباء الدين.
أما الحقيقة بالنسبة إلى الأمور الوجودية (غير الاعتبارية وغير النسبية) فهي واحدة ، والإدراك الحسي يقدم شهادة بما توصل إليه من نتائج نحو الحقيقة ، ويرافق الإدراك الحسي الوسائل المادية التي يستخدمها الحس ، كالملاحظة والتجربة مع الأدوات والآلات التي تثبت صحة شهاداتها ، كالمقاييس والموازين والكواشف المختلفة ، وذوات الإحساس المادي غير الإرادي الكيميائي والفيزيائي ، حتى الذري الإلكتروني . والاستنتاج أو الاستدلال العقلي يقدم أيضاً شهادةً بما توصل إليه من نتائج نحو الحقيقة . ولا يمكن أن تتناقض نتائج الإدراك الحسي ونتائج الاستدلال العقلي إلا وأحدهما أو كلاهما مصاب بالخلل ، وذلك لأن كلاً منهما منحة ربانية وضعها الخالق بين يدي الإنسان ليعرف بها حقائق الأشياء ، كما وضع بين يدي كل منهما وسائل البحث التي تقدم شهاداتها عن مشاهداتها ، والطرق الصحيحة التي تقصد أمراً واحداً لا بد أن توصل إلى غاية واحدة ونتيجة واحدة ، أو غير متناقضة على أقل تقدير ، إذ تتكامل الحقيقة مما قدمت هذه الطرق من مدركات ، أو يعرف بها جزء من الحقيقة ، على قدر ما استطاعت أن تكشف منها .
ثم إن الوحي الذي هو منحة من الله لعباده عن طريق النبوَّة هو أيضاً طريق من طرق المعرفة الصحيحة ، فهو يقدم شهادة بالحقيقة ، ومتى كان الخبر عن الوحي يقينياً مقطوعاً به فإنه لا يمكن بحال من الأحوال أن يتناقض مع اليقين الذي تُوصل إليه الوسائل الإنسانية البحتة . ولو أمكن أن تتناقض لكان معنى ذلك أن الفاطر الحكيم لم يضع بين أيدينا الوسائل الصحيحة التي تكسبنا المعارف والعلوم الحقة ، أو لم يصدقنا فيما أخبرنا به عن طريق الوحي ، وكل من الأمرين مستحيل عقلاً وشرعاً .
فالله تبارك وتعالى جعل وسائل المعرفة فينا مسؤولية في ميدان المعرفة والبحث العلمي ، ومسؤوليتها هذه رهن بأنها من الطرق الموصلة إلى الحقيقة ، كما جعلنا مسؤولين عن التسليم بما يخبرنا به عن طريق الوحي ، لأن برهان العقل قد قام لدينا بأن ما يخبرنا به الرسول عن طريق الوحي صدق وحق ، والجامع بين الأمرين هو أن كلاً منهما يقدم شهادة بالحقيقة ، وبما أن الحقيقة واحدة فإنه لا يمكن أن تتناقض نتائج الطرق الصحيحة الموصلة إليها ، ومتى ظهر التناقض فلا بد أن يكون ذلك لخلل أصابها أو أصاب واحداً منها .
فمن الأمثلة ما يلي : لقد أخبرنا الله أنه لا إله إلا هو ، وهذا خبر جاءنا به الوحي فقدم لنا شهادة بحقيقة وحدانية الخالق تبارك وتعالى ، والبحث العلمي في هذا المجال لا بد أن يوصل إلى هذه الحقيقة نفسها ، ولذلك قال الله تعالى في سورة (آل عمران/3 مصحف/89 نزول):
{شَهِدَ ٱللَّهُ أَنَّهُ لاَ إِلَـٰهَ إِلاَّ هُوَ وَٱلْمَلاَئِكَةُ وَأُوْلُواْ ٱلْعِلْمِ قَآئِمَاً بِٱلْقِسْطِ..}.
فلدينا إذن حول هذه الحقيقة شهادة الله إذ أخبرنا بوحدانيته عن طريق الوحي والرسل ، ولدينا أيضاً شهادة أولي العلم الذين توصلوا إلى هذه الحقيقة عن طريق البحث العلمي .
فمن الغفلة الكبيرة والجهل بأصول المعرفة ، إقامة الصراع والنزاع بين ما يأتي من المعارف الكونية عن طريق الدين ، وما يأتي منها عن طريق الوسائل الإنسانية ، مع أن هذه وتلك شواهد إلهية أقامها الله بين يدي الإنسان ليعرف بها الحقيقة ، وهل يشهد الله شهادتين متناقضتين أو يضللنا سبحانه فيضع لنا وسيلتين تعطي كل منهما نتيجة مناقضة للأخرى في موضع واحد؟
هذا أمر لا يكون في حال من الأحوال ، وحكمة الله العلي العليم الحكيم القدير تأباه .
وواجبنا لدى البحث عن الحقيقة أن نحرر تحريراً دقيقاً ما تأتينا به الوسائل الإنسانية من المعارف ، وما يصلنا من أخبار الوحي .
وكل مظهر للتناقض بين ما تشهد به الوسائل الإنسانية للمعرفة وما تشهد به النصوص الدينية لا يعدو أحد الاحتمالات التالية:
1- إما أن يكون الذي نسب إلى العلم لم يصل إلى مرحلة العلم المقطوع به ، كالنظريات التي لم تتأكد بعد ، والتي ما زالت رهن البحث والنظر ، أو التي لا سبيل إلى إثباتها بأدلة علمية يقينية ، وإن اعتقدها العلماء الماديون لعدم وجود ما هو أقوى منها في نظرهم المادي البحت ، ولأنه لا اختيار لهم بعد ذلك إلا التسليم بما جاء به الدين ، وهم يرفضون نفسياً هذا الأخير .
2- وإما لأن الذي نسب إلى الدين لم يصل إلى درجة القطع في نقل النص الذي تضمنه .
3- وإما لأن الفهم الذي فُهم به النص الديني فهم خاطئ ، وهذا الفهم لا يتحمل النص الديني وزر خطئه ، وغنما يعبر عن رأي من فهمه على هذا الوجه المخالف للحقيقة العلمية ، التي توصلت إليها الوسائل الإنسانية ، كمسألة كروية الأرض ودورانها حول نفسها وحول الشمس .
وهنا نلاحظ أن النصرانية لما سقطت في طائفة من المفاهيم الباطلة الدخيلة على أصل الدين ، والمخالفة له ، والمناقضة لأصول العقل والعلم الصحيح ، حاولت أن تتلخص من ورطتها هذه بمقالتها المشهورة : "الدين لا يخضع للعقل" وأطلق علماؤهم بين بين أتباعهم كلمتهم المأثورة : "أطفئ مصباح عقلك واعتقد وأنت أعمى" وحرموا التفكير والنظر في مسائل الدين ، وفرضوا عليهم التسليم الأعمى بالإله المثلث دون مناقشة ولا نظر ، مع أن أصول العقل السليم ترفض هذا رفضاً قطعياً ، ولا تسلم به النفوس إلا مع تعطيل منطق العقل ، ورافق ذلك أنهم أقفلوا باب العقل والبحث العلمي نهائياً عن كل مسألة تعرضت إليها نصوص دينهم ، حتى ما كان منها متعلقاً بواقع الكون الذي تستطيع الوسائل الإنسانية أن تصل إلى معرفته .
ولما جاء الإسلام رفض هذا التثليث الدخيل على دين الله ، ونادى بالوحدانية ، وقدم على ذلك شهادة من عند الله ، نزل بها الوحي على رسول الله محمد ، وشهادة من أولي العلم ، فجعل العقل العلمي شاهداً على هذه الحقيقة ، وناقض مخالفيها على أساس من العقل والعلم ، واعتبر العقل في هذا سنداً يُستفتى ويُستشهد به ، ولو كان البحث العلمي الإنساني السليم سيوصل إلى القطع بحقائق لا يوافق عليها الدين لما دعاه الإسلام إلى تقديم شهادته بالحقيقة ، ولما أرشد الله العلماء إليه ، ووضع في أيديهم وسائله ، ودفع بهم إليه دفعاً ، فقال الله تعالى في سورة (يونس/10 مصحف/51 نزول):
{قُلِ ٱنظُرُواْ مَاذَا فِي ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضِ...}.
وقال في سورة (العنكبوت/29 مصحف/85 نزول):
{قُلْ سِيرُواْ فِي ٱلأَرْضِ فَٱنظُرُواْ كَيْفَ بَدَأَ ٱلْخَلْقَ...}.
وقال في سورة (الذاريات/51 مصحف/61 نزول):
{وَفِي ٱلأَرْضِ آيَاتٌ لِّلْمُوقِنِينَ * وَفِيۤ أَنفُسِكُمْ أَفَلاَ تُبْصِرُونَ..}.
ولما ناقش الناس بدلائله (أي : بدلائل العقل) ، ففي إثبات الوحدانية قال الله تعالى في سورة (الأنبياء/21 مصحف/73 نزول):
{لَوْ كَانَ فِيهِمَآ آلِهَةٌ إِلاَّ ٱللَّهُ لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ ٱللَّهِ رَبِّ ٱلْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ}
وقال في سورة (المؤمنون/23 مصحف/74 نزول):
{مَا ٱتَّخَذَ ٱللَّهُ مِن وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَـهٍ إِذاً لَّذَهَبَ كُلُّ إِلَـٰهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلاَ بَعْضُهُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ سُبْحَانَ ٱللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ}.
وفي إثبات وجود الله ناقش بالمنطق العقلي البحت فقال الله تعالى في سورة (الطور/52 مصحف/76 نزول):
{أَمْ خُلِقُواْ مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ ٱلْخَالِقُونَ}.
إلى غير ذلك من شواهد كثيرة