منهج الإسلام في المعرفة
من كتاب :
صِرَاعُ مَعَ المَلاحِدَة حتى العظم
تأليف
عبد الرحمن حسن حبنّكة الميداني
الأساس الأول للمعرفة في الفكر الإسلامي يقوم على أن المعرفة الصحيحة هي ما كان مطابقاً للواقع والحقيقة ، فما كان مطابقاً لذلك فهو حق ، وما لم يكن مطابقاً له فهو باطل ، وقد تكون الصورة الذهنية أو القولية مطابقة للواقع والحقيقة من بعض الوجوه ، ومخالفة من بعض الوجوه ، فيكون فيها من الحق على مقدار المطابقة ، ومن الباطل على مقدار المخالفة .
والقاعدة الكلية التي تأتي وراء هذا الأساس هي : أن كل وسيلة صحيحة تعطينا صورة صادقة عن الواقع والحقيقة هي وسيلة يجب الاعتماد عليها والثقة بها في تحصيل المعرفة ، والمرجع الأول والأخير دائماً هو الواقع ، وبالواقع تقاس النتائج . وعلى هذه القاعدة قام بناء الفكر الإسلامي .
أما وسائل المعرفة التي يجب اعتمادها في الفكر الإسلامي فتتلخص بثلاث وسائل:
الوسيلة الأولى : المعرفة المباشرة ، وتكون بالإدراك الحسي ، ولو عن طريق الأجهزة والأدوات .
الوسيلة الثانية : الاستدلال العقلي بمختلف طرقه الاستنتاجية والاستنباطية .
الوسيلة الثالثة : الخبر الصادق ، ومن الخبر الصادق الوحي ، وهنا يعترضنا سؤال وهو : إذا كان الهدف الأول والرئيسي هو أن تكون المعرفة مطابقة للواقع والحقيقة ، فماذا نصنع حينما تختلف وسائل المعرفة حول موضوع واحد ، أو حول نقطة في موضوع واحد؟
هل نعتمد وسيلة الإدراك الحسي؟
أو وسيلة الاستدلال العقلي؟
أو وسيلة الخبر الصادق؟
أو ماذا نصنع...؟
ونجيب على هذا السؤال بما يلي :
حينما يكون دليل وسيلة من هذه الوسائل هو الدليل الأقوى في الموضوع فإنه ينبغي اعتماده وترجيحه ، فإذا كان دليل الحس قائماً على مشاهدة صحيحة يقينية خالية من احتمال الخطأ ، مؤكدة بتوافق الحواس في إدراكها ، كان دليل الحس هو الذي ينبغي اعتماده ، ومن ثم يعاد النظر في الاستدلال العقلي إذا كان الخلاف معه أو يعاد النظر في دليل الخبر الصادق إذا كان الخلاف معه ، وإعادة النظر في دليل الخبر الصادق قد لا تحتاج أكثر من تصحيح فهم النص ، والنظر في تأويله بما يتفق مع النتائج اليقينية التي قدمها دليل الحس ، وذلك لأن الغاية من استخدام وسائل المعرفة إنما هو الوصول إلى معرفة مطابقة للواقع ، وليس من الممكن أن يتناقض الواقع مع نفسه ، وحينما يظهر خلاف أو تناقض في النتائج التي قدمتها الوسائل فلا بد أن خطأ قد دخل حتماً في بعضها أو في كلها ، وعندئذ لا مناص من مراجعة الأدلة والتمحيص فيها ، وإعادة النظر وزيادة التحري عن الحقيقة لاكتشاف مواقع الخطأ والخلل. وتظل المراجعة مفتوحة حتى يتم اكتشاف المخطئ منها ، ثم ما يثبت منها الواقع والحقيقة بصفة يقينية يكون هو الجدير بالاعتماد ، ثم يعاد النظر في غيره حتى نصححه وننتهي إلى التوافق التام في النتائج ، فمن المستحيل في منطق الوجود أن تتناقض الأدلة اليقينية في معطياتها العلمية ، وحينما نجد التناقض في هذه المعطيات فلا بد من وجود خلل أو خطأ في بعض الأدلة أو في كلها .
وتخضع النصوص الدينية لحكم هذا المنهج العلمي ، لأن الحقيقة الواقعة في الوجود هي من خلق الله تعالى ، والله محيط بكل شيء علماً ، وحينما يخبرنا عن شيء منها فلا بد أن يكون خبره مطابقاً لما هي عليه في الواقع ، لأنه يستحيل الجهل أو الكذب عليه سبحانه .
والمشكلة قد تأتي – كما سبق أن أوضحت – من الخطأ في فهم النص الديني الثابت ، وفهم النص الديني عمل اجتهادي إنساني ، وهذا الفهم الإنساني للنص قد يصيب وقد يخطئ ، فإذا أخطأ الاجتهاد في الفهم فليس معنى خطئه أن النص هو المخطئ ، ولكن المخطئ هو الإنسان غير المعصوم ، الذي اجتهد في فهم معنى النص ، وفي هذه الحالة علينا أن نراجع فهمنا للنص ، ونعيد تدبُّرنا له ، حتى نصل إلى المعنى اليقيني الذي تم الوصول إليه بيقين عن طريق الإدراك الحسي أو الاستدلال العقلي .
ولا يكون التعصب للاجتهاد الذي أخطأ فيه صاحبه إلا خدمة للذين يحاولون بكل ما يستطيعون من جهد أن يثبتوا التناقض بين ما يأتي به الدين ، وبين الحقائق التي تأتي بها الوسائل الإنسانية للبحث العلمي ، لطعن الدين من أساسه ، ونسف قواعده القائمة على الحق ، وإشاعة الإلحاد والمادية التي لا تؤمن بالله .
وقد تأتي المشكلة أيضاً من كون النص الديني نصاً غير ثابت ثبوتاً قطعياً ، لأنه لم تتوافر له الروايات الصحيحة التي تجعله قطعيّ الثبوت ، وبدهي في هذه الحالة أن يكون الدليل الحسي اليقيني أو الدليل العقلي اليقيني أقوى من دليل الخبر الظني الذي لم يبلغ مبلغ القطعية ، فإن أمكن تأويل النص أقوى من دليل الخبر الظني الذي لم يبلغ مبلغ القطعية ، فإن أمكن تأويل النص بما يتفق مع النتائج اليقينية للأدلة الأخرى أولناه ، وإلا أخذنا بالنتائج اليقينية حتماً ، وتركنا النص ودلالته ، ولا يضرنا هذا في الدين ، لأن قبولنا له من الأساس قد كان بصفة ترجيحية لا بصفة قطعية .
فإذا سأل سائل فقال : هل لنا أن نؤول النصوص الدينية أو نخصصها بدليل الحس أو بدليل العقل ، حتى تكون دلالتها مطابقة للواقع والحقيقة؟
كان جوابنا بالإيجاب حتماً ، وبأن هذا العمل من القواعد المقررة في علوم الشريعة الإسلامية ، يقول علماء أصول الفقه في أبواب تخصيص العام : "لا خلاف في جواز تخصيص العموم" ويقررون في أبواب تأويل الظاهر : "أنه يجوز التأويل متى كان دليله أرجح من دليل العمل بالظاهر ، ويجب التأويل متى كان دليله دليلاً قاطعاً لا يجوز العدول عنه" ويذكرون من أدلة تخصيص العموم : "دليل الحس ، ودليل العقل" ونظير ذلك يكون في تأويل الظاهر ، فيتم التأويل بناء على دليل الحس أو دليل العقل .
هذا هو منهجنا الإسلامي فيما يتعلق بالنصوص الدينية ودلالتها على حقائق الأشياء .
ولكن يجب الحذر الشديد لدى تطبيق هذا المنهج ، حتى لا يدخل علينا الدس الماكر باسم الحقائق العلمية التي توصلت إليها نتائج البحث العلمي بالوسائل الإنسانية البحتة ، فكثير من النتائج التي تُقرَّر على أنها حقائق علمية عند أصحاب البحث العلمي المادي لا تعدو أنها نظريات أو فرضيات قابلة للتعديل أو التغيير أو النقض الكلي ، وليست حقائق علمية يقينية عند أصحابها ، ولكن أصحاب الأهواء أو صغار المثقفين الذين لا يقدرون المعارف العلمية حق قدرها ، وينخدعون بدعايات الترويج التجاري أو السياسي للنظريات أو الفرضيات العلمية ، قد يزعمون أنها حقائق ويقينيات علمية ، وليست هي في الواقع كذلك ، ثم يحملونها حمل الببغاوات أو حمل الأجراء ، ثم يقولون : إن بين الحقائق العلمية وبين النصوص الدينية تناقضاً ، ويقصدون بالحقائق العلمية هذه النظريات أو الفرضيات التي لم تثبت بعد في نظر واضعيها ثبوتاً يقينياً أو نهائياً ، فضلاً عن أن تكون يقينيات في نظر غيرهم من الذين يعارضون فيها .
وأمام هذه النظريات أو الفرضيات لا نجد أنفسنا ملزمين علمياً بتحديد معاني النصوص الدينية التي تتناول الموضوع نفسه تحديداً قاطعاً .
والخطة المثلى أن نطرح الاحتمالات دلالاتها طرحاً غير مقترن بترجيح ولا تثبيت ، وحينما نرى أن نرجح فعلينا أن لا نجزم ، وأن نترك الجز لمستقبل البحث العلمي ، وننتظر إثبات الحقيقة العلمية بوسيلة يقينية ، فالمضمون لا يتعلق به حكم شرعي يجب العمل به ، لذلك فلا ضير من التريث والأناة ، هذا إذا لم يكن النص اليقيني قاطعاً في دلالته .
أما إذا كان قاطعاً في دلالته ، أو كان من الأمور المتعقلة بالتشريع والأحكام الدينية ، أو من الغيب الاعتقادي الذي لا تملك الوسائل الإنسانية الوصول إلى شيء منه ، فإنه يجب الأخذ بمضمونه وفق أصول الاجتهاد في فهم النصوص ، فاليقيني منها نسلم به تسليماً تاماً ، وغير اليقيني نضعه في المستوى الذي يقتضيه الترجيح .
النتيجة
فهل لمضلل ملحد بعد هذا التحليل لموقف العلم والدين من الحقيقة أن يزعم وجود التناقض بين الإسلام والعلم في المنهج الذي يجب اعتماده للوصول إلى معرفة الحقائق ، أو في النتائج اليقينية المقطوع بها التي يقررها الدين والأخرى التي تنتهي إليها وسائل البحث العلمي الإنساني ؟
إن أي مضلل لا يستطيع إثبات ادعائه وجود هذا التناقض ، إلا على أساس من المغالطات والأكاذيب وزخرف من القول وصناعة الجدال بالباطل .
فمن المستحيل وجود التناقض بين الحقائق التي تأتي عن طريق الدين والحقائق التي تأتي عن طريق وسائل المعرفة الإنسانية البحتة .