شرح المفاتيح القرآنية
للدليل النظري الدال على الحياة الأخرى
من كتاب :
صِرَاعُ مَعَ المَلاحِدَة حتى العظم
تأليف
عبد الرحمن حسن حبنّكة الميدان
اكتفيت في الفقرة السابقة بعرض المفاتيح القرآنية للدليل النظري القاضي بضرورة الحياة الأخرى للناس في خطة الوجود ، لاستيفاء كمال العدل الإلهي ، والجزاء الأمثل ، وهو ما تقضي به قواعد الإيمان بالله وكمال صفاته ، التي دلت عليها ظواهر هذا الكون المتقن المحكم الهادف إلى تحقيق غاية تناسب حكمة الخالق العظيم .
واعتمدت هناك على عرض المفاهيم العامة المستفادة من هذه المفاتيح ، لأفردها في فقرة خاصة أُولِي فيها كل نص منها نظرات تدبُّر وبحث استنباط .
وفيما يلي شرح لهذه النظرات:
( أ ) النص الأول :
قول الله تعالى في سورة (المؤمنون/23 مصحف/74 نزول):
{أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لاَ تُرْجَعُونَ * فَتَعَالَى ٱللَّهُ ٱلْمَلِكُ ٱلْحَقُّ لاَ إِلَـٰهَ إِلاَّ هُوَ رَبُّ ٱلْعَرْشِ ٱلْكَرِيمِ }
فهذا النص يكشف لنا أنه لو لم يكن وراء هذه الحياة التي تنتهي بالموت حياة أخرى ، تكون فيها الرجعة إلى الله للحساب والجزاء وإقامة محكمة العدل والفضل الإلهية ، لكانت عملية هذا الخلق ضرباً من العبث ، والله تبارك وتعالى منزَّه عنه ، فلا يكون في شيء من أفعاله وأحكامه وأوامره ونواهيه وشرائعه هذا العبث ، بل لا بد في كل ذلك من غايات حكيمة تحددها إرادة الخالق المستندة إلى علمه المحيط بكل شيء ، والجديةُ الصارمة هي المظهر البارز في كل أحداث الكون وقوانينه وسننه ، وإشارة إلى كون الله منزَّهاً عن العبث في عمليات الخلق التي يجريها قال الله تعالى في هذا النص : {فتعالى الله الملك الحق لا إله إلا هو رب العرش الكريم}
ولما كان احتمال العبث احتمالاً مرفوضاً عقلياً كان لا بد من وجود حياة أخرى تظهر فيها تطبيقات الغاية من الحياة الأولى ، وهذه الحياة لا بد أن تكون مقررة في برنامج المقادير الربانية ، إن الله هو الملك الحق الذي لا إله إلا هو ، وبهذا نلاحظ أن هذا النص قد أعطى الفكر الإنساني مفتاح البحث النظري لهذه الحقيقة.
(ب) النص الثاني :
قول الله تعالى في سورة (القلم/68 مصحف/2 نزول):
{ أَفَنَجْعَلُ ٱلْمُسْلِمِينَ كَٱلْمُجْرِمِينَ * مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ}
من الواضح أن ظروف هذه الحياة التي نعيشها قد تسمح للمجرمين بأن يعيشوا فيها عيشاً رغداً ناعماً ، يصيبون فيه المال والجاه والسلطان واللذات ، كما قد تسمح للمسلمين أهل الاستقامة بمثل ذلك ، وقد تسمح بأن يتمكن الفاجر من قتل التقي وظلمه وتعذيبه ، واستلاب ماله والعدوان عليه في أرضه أو عرضه ، وقد لا يلقى الفاجر جزاءً معجلاً على فجوره ، بل قد يمهل وتأتيه منيَّته دون أن ينال شيئاً من جزائه ، فلولا أن حياة أخرى غير هذه الحياة قد أعدت في برنامج المقادير الربانية لإقامة الجزاء الذي توجبه حكمة الخالق ، لكانت النتيجة الحكم على الخالق بأنه قد رضي بأن يجعل المسلمين كالمجرمين سواء محياهم ومماتهم ، وهذا يتنافى مع أصول العدل والحكمة الإلهية ، لذلك فهو مرفوض عقلاً ، ولما كان هذا الاحتمال مرفوضاً فإن الاحتمال المقابل له – وهو وجود الحياة الأخرى التي يتحقق فيها التمييز بين المسلمين والمجرمين – هو من الأمر الحتمي الذي لا مناص من اللجوء إلى إدراكه عقلاً ، والتسليم به عقيدة ، وهو طبعاً الاحتمال الذي قررته النصوص الدينية وأخبرت به .
وتفسير العملية كلها يتضح بأن هذه الحياة كلها لا تزيد على أنها مجال مفتوح لامتحان الناس على سواء ، كقاعة الامتحان حينما يدخلها الدارسون المجدّون والهازلون الكسالى ، والمتلاعبون الظالمون .
من المتحتم أن القصة لا تنتهي بانتهاء المدة الزمنية للامتحان ، بل لا بد من زمن آخر تعلن فيه النتائج ، وينال فيه كلٌّ على مقدار عمله .
فمن أجل ذلك جاءت الآية بصيغة الاستفهام الإنكاري {أفنجعل المسلمين كالمجرمين؟ مالكم كيف تحكمون؟} دلالة على أن إنكار الحياة الأخرى وما فيها من جزاء يفضي إلى اتهام حكمةِ الخالق بالتسوية بين المسلمين والمجرمين ، وهو أمر مرفوض رفضاً قطعياً ، وقد تنزه الخالق عنه وتعالى علواً كبيراً.
إن أحدنا لا يقبل أن يُسوّي في أحكامه بين الظالم والمظلوم ، أو بين المحسن والمسيء ، أو بين المجدّ والكسول ، أو بين العالم والجاهل ، ولو فعل ذلك واحد منا لكان سِمةَ نقص كبير في أخلاقه . أفنكرِّم أنفسنا عنه ونرضاه للخالق جلَّ وعلا؟
إنه أمر مرفوض بداهة ، ورفضه يعني حتمية اليوم الآخر والحياة الأخرى .
(ج) النص الثالث :
قول الله تعالى في سورة (الجاثية/45 مصحف/65 نزول):
{أَمْ حَسِبَ ٱلَّذِينَ ٱجْتَرَحُواْ ٱلسَّيِّئَاتِ أَن نَّجْعَلَهُمْ كَٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّالِحَاتِ سَوَآءً مَّحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَآءَ مَا يَحْكُمُونَ}.
إن هذا النص القرآني يكشف لنا عن حقيقة فكرية مهمة جداً ، وهي أن مقتضيات العدل الإلهي توجب التسليم بأن التسوية في الجزاء بين الذين اجترحوا السيئات والذين آمنوا وعملوا الصالحات قضية مرفوضة حتماً ، لأنها تتنافى مع صفتي عدل الله وحكمته الثابتتين بالدليل العقلي ، والثابتتين أيضاً في ظواهر شتى من واقع حياتنا المدروسة ، وإذا كانت هذه التسوية مرفوضة عقلاً فما بالنا نلاحظ في هذه الحياة أن كثيراً من الذين اجترحوا السيئات ينالون منها مثل ما ينال منها الذين آمنوا وعملوا الصالحات ، أو أكثر في بعض الأحيان ، وأن كثيراً من الذين آمنوا وعملوا الصالحات قد تتوالى عليهم المصائب والآلام ؟ فأين تطبيق قواعد العدل والحكمة الإلهية؟
وهنا يأتي الجواب العقلي الذي لا يحتاج إلى بحث وتأمل كثيرين:
إن هذه الحياة ليست نهاية قصة حياة الإنسان ، ولكنها فصل منها ، ومرحلة قصيرة أعدت في برنامج الوجود الكبير لغاية الابتلاء ، ولا بد حتماً من ظروف حياة أخرى تأتي بعد انتهاء هذه الحياة الدنيا التي أعدت للامتحان ، وعندئذٍ تظهر تطبيقات قواعد العدل الألهي ، وتظهر مراحل الجزاء ، وهنا نبهنا هذا النص القرآني على أن تطبيق قواعد الجزاء يبدأ مع بداية مرحلة الموت ، الذي هو عملية انفصال بين الروح المدركة المحسة ، وبين الجسد الذي هو ثوب هذه الروح في حياتها الأولى .
ومع بداية هذه المرحلة الجديدة من وجود الإنسان تظهر الفوارق القائمة على العدل والحكمة بين الذين آمنوا وعملوا الصالحات والذين اجترحوا السيئات .
إن ما لم يظهر اليوم في مرحلة الامتحان لا بد أن يظهر غداً في مراحل الجزاء .
فهذه الآية تشير إلى التطبيقات الجزائية التي تكون في مدّة الحياة البرزخية بعد الموت وقبل البعث ، وهو ما يطلق عليه نعيم القبر وعذابه .
( د ) النص الرابع :
قول الله تعالى في سورة (القيامة/75 مصحف/31 نزول):
أَيَحْسَبُ ٱلإِنسَانُ أَن يُتْرَكَ سُدًى * أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِّن مَّنِيٍّ يُمْنَىٰ * ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّىٰ * فَجَعَلَ مِنْهُ ٱلزَّوْجَيْنِ ٱلذَّكَرَ وَٱلأُنثَىٰ * أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَىٰ أَن يُحْيِـيَ ٱلْمَوْتَىٰ }.
من الواضح أن هذا النص يشتمل على المفتاح الفكري لاكتشاف الغاية من خلق الإنسان في هذه الحياة : {أيحسب الإنسان أن يترك سُدى؟!}
أي : إنه لم يُخلق في هذه الحياة ليأكل ويشرب ، ويتمتع ويظلم ، ويطغى ويفسد في الأرض ، وينزل الآلام بالآخرين ويكفر بربه ، ثم يترك سدى دون جزاء عادل ، أو ليستقيم ويعمل الصالحات ، ويعدل بين الناس ويحسن إليهم ، ويمسح عنهم الآلام ويعبد ربه ، ثم يترك سدى دون جزاء كريم .
إن هذا الظن من الإنسان لأمر عجيب ، أفيظن ما لا يليق بعدل الخالق وحكمته؟ أفيظنُّ ظناً تقوم براهين العقل ودلائل الواقع على نقيضه؟
إن الإنسان في هذا الوجود لن يترك سدى بعد ظروف هذه الحياة التي يعيشها ، والتي لو كانت نهاية قصة حياة الإنسان لكانت حياة لا معنى لها ولا مغزى .
وهل يليق بحكمة الخالق العظيم القادر العليم أن يخلق خلقاً باطلاً لا مغزى له؟ إن هذا ضرب من اللعب واللهو والعبث ، والله تبارك وتعالى منزه عن ذلك ، إن كل أمره جد لا هزل فيه .
وإذا ثبت بالدليل النظري أن الإنسان لن يترك سدى فلا بد من ظروف حياة غير هذه الحياة يتم فيها تحقيق الغاية من خلق الإنسان ، ويتم فيها تطبيق قواعد الجزاء الرباني وفق مقتضيات الحكمة والعدل والكرم .
وحينما يبدأ الجاهل قصير النظر يشكُّ في قدرة الله على إعادة الإنسان إلى الحياة بعد الموت في النشأة الأخرى ، فلينظر إلى واقع النشأة الأولى ، إنها تعطيه برهاناً تجريبياً يثبت له أن من أنشأ النشأة الأولى قادر على أن ينشئ النشأة الأخرى ، نشأة الإعادة ، وهي في التحليل النظري أهون من نشأة الابتداء ، وقد لفت النص نظر الإنسان إلى هذا البرهان التجريبي فقال تعالى : {ألم يك نطفة من مني يمنى ثم كان عقلة فخلق فسوَّى فجعل منه الزوجين الذكر والأنثى أليس ذلك بقادر على أن يحيي الموتى؟} بلى وهو الخلاق العليم .
(هـ) النص الخامس:
قول الله تعالى في سورة (ص/38 مصحف/38 نزول):
{وَمَا خَلَقْنَا ٱلسَّمَآءَ وَٱلأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلاً ذَلِكَ ظَنُّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ كَفَرُواْ مِنَ ٱلنَّارِ * أَمْ نَجْعَلُ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّالِحَاتِ كَٱلْمُفْسِدِينَ فِي ٱلأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ ٱلْمُتَّقِينَ كَٱلْفُجَّارِ}.
فحينما يرفع الجاحدون تصورات الحياة الأخرى من أذهانهم تغدو هذه الحياة في تصورهم عملاً باطلاً لا معنى له ، وتغدو مسرحية من مسرحيات اللعب واللهو والعبث .
هذا ما صرح به كبار مفكريهم ، وذلك تصور الذين كفروا وظنهم القائم على أساس باطل هو جحود الحق والكفر به ، فويل لهم من أحداث هذه الحياة الأخرى حينما يجدونها حقيقة واقعة ، ويجدون أنفسهم في النار يعذّبون .
أما المؤمنون فإنهم يدركون الغاية من خلقهم ، ويعلمون أنهم في هذه الحياة الدنيا في ظروف امتحان لإرادتهم بين يدي خالقهم ، وأن وراء هذه الحياة حياة أخرى خالدة يكون فيها الجزاء الأمثل ، وتظهر فيها حكمة الله من الخلق ، لذلك فهم لا يرون خلق السماوات والأرض وما بينهما باطلاً . ويهديهم إلى هذه الحقيقة أنه من غير الممكن في الاحتمال العقلي أن يجعل الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات كالمفسدين في الأرض ، وأن يجعل المتقين كالفجار ، فتكون نهاية الجميع بالموت ، ولا شيء بعد ذلك من حساب ولا جزاء ، إن هذا العبث لا يفعله من يقيم دورة مسابقة رياضية ، فضلاً عن أن يفعله الخالق القادر العلمي الحكيم العدل ذو الفضل العظيم .
( و ) النص السادس :
وقول الله تعالى في سورة (الأنبياء/21 مصحف/73 نزول):
{وَمَا خَلَقْنَا ٱلسَّمَآءَ وَٱلأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لاَعِبِينَ * لَوْ أَرَدْنَآ أَن نَّتَّخِذَ لَهْواً لاَّتَّخَذْنَاهُ مِن لَّدُنَّآ إِن كُنَّا فَاعِلِينَ * بَلْ نَقْذِفُ بِٱلْحَقِّ عَلَى ٱلْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ وَلَكُمُ ٱلْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ }.
جحد المشركون الحساب واليوم الآخر ، وجرّهم ذلك إلى إنكار رسالة محمد وما جاء فيها من وعد ووعيد ، وكان معنى جحودهم هذا أن الحياة الإنسانية ليس لها إلا ظروف هذه الحياة المشاهدة المدروسة للإنسان ، وبالموت تنتهي القصة نهاية تامة ، ثم لا شيء وراء ذلك ، مع أن هذا الفصل المشهود من حياة الإنسان مليء بأحداث الظلم والبغي الإنساني ، ومشحون بالجحود والكفر والاستكبار والعناد ، والعدوان والفساد ، وكثيراً ما تنتهي حياة أصحاب هذه الأحداث دون أن يلقوا في الحياة الدنيا جزاءهم العادل ، وحينما يصيب بعضهم بعض جزائه فإن كامل جزائه لا يناله ، وفي مقابل ذلك نجد في هذا الفصل المشهود من حياة الإنسان دعاةَ خير مضطهدين ، وطبيبين صالحين معذَّبين ، ومؤمنين مصلحين غير مكرَّمين ، وكثيراً ما تنتهي حياة هؤلاء دون أن يُنصفوا من خصومهم ، ودون أن يلقوا ثوابهم أو كامل ثوابهم .
أفيصحّ في ميزان العقل أن يقتصر حكيم قادر عليم على مشاهد هذا الفصل من عملية الخلق التي أنشأناها ، دون أن يكون وراءه فصل آخر أو عدة فصول تتحقق فيها النتائج المنطقية للفصل الأول ، وتظهر فيها الحكمة المناسبة لمستوى الحكيم الذي رتَّب ظروف الفصل الأول بإتقان تام؟
لو شهدنا مثل هذا الفصل في تمثيلية من وضع الإنسان لقلنا لا بدَّ أن فصلاً أو فصولاً أخرى ستأتي بعده ، حتى تنتهي القصة إلى نهاية معقولة تظهر فيها الغاية ، ويتحقق فهيا معنى الجزاء ، ويبرز فيها المضمون الأخلاقي ، في توجيه غير مباشر .
فلو أن كاتب القصة أو مخرج التمثيلية قد اقتصر على الفصل الأول منها ، فماذا يقول العقلاء عنه؟
إذا كان هذا الفصل فصلاً فكاهياً فإنهم يقولون عنه : كاتب هزلي ، يريد أن يضحك المشاهدين بألعابه ومشاهد اللهو التي رتبها ، وإذا لم يكن فصلاً فكاهياً فإن كان فيه شيء من الجرائم والفساد فإنهم يتهمونه بأنه يريد التشجيع على الجرائم والفساد ، واستخدام القوى وأنواع الحيلة لنشر الظلم والعدوان في الأرض ، إذ لم ينه تمثيليته بمضمون أخلاقي كريم ، يتحقق فيه الجزاء الرادع القاسي للمجرمين والمفسدين ، والنهاية الطيبة السعيدة للصالحين المستقيمين .
فما بال الذين ينكرون اليوم الآخر يقبلون في تصورهم أن تكون قصة حياة الإنسان تنتهي بنهاية الفصل الأول منها ، مع أن هذا الفصل لم تتحقق فيه الغاية ، ولم يتحقق فيه الجزاء , وهو فصل مأسَوِي (درامي) جاد لا أثر للهزل فيه؟
أفيريدون أن يجعلوا الله العليم الحكيم القادر لاعباً بآلام الناس ومشاقِّهم ومتاعبهم في هذه الحياة؟ أو هازلاً بعواطف المؤمنين به المطيعين له الساعين في مرضاته ، والباذلين كثيراً مما يشتهونه ويحرصون عليه في سبيله؟ تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً.
هذه هي النقطة الفكري التي نبه هذا النص القرآني عليه ، وناقش منكري اليوم الآخر ومنكري رسالة الرسول على أساسها .
فقد عرضت سورة (الأنبياء/21 مصحف/73 نزول):
{ٱقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُّعْرِضُونَ}
وقضية الرسول والكتاب ، فقال تعالى :
{مَا يَأْتِيهِمْ مِّن ذِكْرٍ مِّن رَّبِّهِمْ مُّحْدَثٍ إِلاَّ ٱسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ * لاَهِيَةً قُلُوبُهُمْ وَأَسَرُّواْ ٱلنَّجْوَى ٱلَّذِينَ ظَلَمُواْ هَلْ هَـٰذَآ إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ أَفَتَأْتُونَ ٱلسِّحْرَ وَأَنتُمْ تُبْصِرُونَ }.
ثم بعد هذا وبعد مناقشات له جاء قول الله تعالى :
{وَمَا خَلَقْنَا ٱلسَّمَآءَ وَٱلأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لاَعِبِينَ}
أي : لو كانت قصة هذه الحياة تنتهي بحادثة الموت التي يختم بها هذا الفصل لكانت عملية خلق السماء والأرض وما بينهما لعباً من اللعب .
أفيكون العليم الحكيم القادر لاعباً لاهياً هازلاً في كل الأحداث الجادة المشحونة بالمتاعب والآلام في هذا الفصل ؟
أم لا بد أن يكون قد رتب فصلاً أو فصول أخرى ، ستظهر فيها غاية عمله ومقتضيات حكمته؟
العقل يقضي بأنه لا بد أن يكون في برنامج الوجود فصل أو فصول متعددة وراء هذا الفصل الأول .
وهذا ما جاءت النصوص الدينية تدعو إلى الإيمان به وتكشف بعض ما هو داخل في برنامجه من تفصيلات .
ومن بدائع المناقشة القرآنية لهذا الموضوع قول الله تعالى في هذا النص:
{لَوْ أَرَدْنَآ أَن نَّتَّخِذَ لَهْواً لاَّتَّخَذْنَاهُ مِن لَّدُنَّآ إِن كُنَّا فَاعِلِينَ}
فالله في هذا يتنزل إلى مستوى عقول هؤلاء المنكرين لليوم الآخر والمنكرين للرسالة ، إذ لزم من مذهبهم أن تكون عملية خلق السماوات والأرض وما بينهما ضرباً من اللعب واللهو والعبث فيقول لهم : {لو أردنا أن نتخذ لهواً لاتخذناه من لدنا}، أي : لكنا اتخذنا لهواً بعيداً عن مخلوقات ذات إحساسات وعواطف وانفعالات ، وآلام وآمال ، وأكدار ومسرات ، ولما كان من العدل والرحمة والحكمة أن نعبث هذا العبث بهذه الأحياء المدركة المحسة ، فنلهو بآلامها ، ونعبث بأكدارها ، ونلعب بعواطفها وانفعالاتها ، وحبها وذلها عبادتها ، لو أردنا لكنا نفعل هذا اللهو بعيداً عنها ، ولا نجعلها ساحة عبثنا ، هذا إن كنا فاعلين شيئاً من ذلك ، لكن اللعب واللهو والعبث ليس من شأننا .
تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً ، إن كل أفعاله سبحانه تشتمل على حِكَم يريدها ، وهذه الحِكَم والغاياتُ جليلة تناسب مستوى علمه وحكمته وقدرته سبحانه .
ولما كان مذهب المنكرين يسلتزم اتهام الخالق سبحانه بالعبث في خلقه كان لا بد من تهديد لهم بالويل على ما يصفون الله به ، فقال تعالى لهم:
{بَلْ نَقْذِفُ بِٱلْحَقِّ عَلَى ٱلْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ وَلَكُمُ ٱلْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ}
( ز ) النص السابع :
قول الله تعالى في سورة (الدخان/44 مصحف/64 نزول):
{إِنَّ هَـٰؤُلاَءِ لَيَقُولُونَ * إِنْ هِيَ إِلاَّ مَوْتَتُنَا ٱلأُوْلَىٰ وَمَا نَحْنُ بِمُنشَرِينَ * فَأْتُواْ بِآبَآئِنَا إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ * أَهُمْ خَيْرٌ أَمْ قَوْمُ تُبَّعٍ وَٱلَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ أَهْلَكْنَاهُمْ إِنَّهُمْ كَانُواْ مُجْرِمِينَ * وَمَا خَلَقْنَا ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لاَعِبِينَ * مَا خَلَقْنَاهُمَآ إِلاَّ بِٱلْحَق وَلَـٰكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ * إِنَّ يَوْمَ ٱلْفَصْلِ مِيقَاتُهُمْ أَجْمَعِينَ * يَوْمَ لاَ يُغْنِي مَوْلًى عَن مَّوْلًى شَيْئاً وَلاَ هُمْ يُنصَرُونَ * إِلاَّ مَن رَّحِمَ ٱللَّهُ إِنَّهُ هُوَ ٱلْعَزِيزُ ٱلرَّحِيمُ }
هذا النص يحكي لنا مقالة منكري الآخرة إذ قالوا : {إن هي إلا موتتنا الأولى وما نحن بمنشرين}.
وفي نص آخر حكى القرآن عنهم أنهم قالوا : {إن هي إلا حياتنا الدنيا وما نحن بمبعوثين}.
ففي سورة (الأنعام/6 مصحف/55 نزول):
{وَقَالُوۤاْ إِنْ هِيَ إِلاَّ حَيَاتُنَا ٱلدُّنْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ}
وفي سورة (المؤمنون/23 مصحف/74 نزول)، قال الله تعالى يحكي لنا مقالة عاد قوم هود لرسولهم ، أو مقالة قوم صالح:
{هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ لِمَا تُوعَدُونَ * إِنْ هِيَ إِلاَّ حَيَاتُنَا ٱلدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ}
وفي سورة (الجاثية/45 مصحف/65 نزول)، قال الله تعالى يحكي لنا مقالة الدهريِّين ، وهم ملاحدة القرون الأولى :
{وَقَالُواْ مَا هِيَ إِلاَّ حَيَاتُنَا ٱلدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَآ إِلاَّ ٱلدَّهْرُ وَمَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلاَّ يَظُنُّونَ * وَإِذَا تُتْلَىٰ عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَينَاتٍ مَّا كَانَ حُجَّتَهُمْ إِلاَّ أَن قَالُواْ ٱئْتُواْ بِآبَآئِنَآ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ}
ومهما تنوعت أقوال منكري الآخرة فهي تتلخص بأنهم يزعمون أن قصة الحياة واحدة تنتهي بالموت ثم لا شيء وراءه ، وليس لهم حجة في الإنكار إلا المطالبة بالمشاهدة الحسية للحياة بعد الموت ، فقالوا لرسلهم : أعيدوا لنا آباءنا إلى الحياة حتى نؤمن بما تقولون ، وتوقفوا عند المطالبة بالدليل الحسي التجريبي ، وحجبوا عقولهم عن إدراك الدليل النظري الذي يجعل قضية الحياة الأخرى قضية ممكنة بحد ذاتها ، فإذا نظرنا إليها من زاوية حكمة الخالق الحكيم ، ومن زاوية واقع هذه الحياة الدنيا كانت قضية حتمية الوقوع ، فهي المرحلة التي يتم فيها بقية برنامجٍ خلق الإنسان وفق الصورة التي أرادها الخالق الحكيم ، وإلا كان برنامجاً ناقصاً أشبه ما يكون باللهو والعبث ، والله الحكيم العليم القادر منزَّه عن أن يعد برنامجاً ناقصاً لا يليق بكماله سبحانه ، أو أن يقتصر على فصل منه يُعَدُّ الاقتصار عليه ضرباً من اللعب .
يدرك هذه الحقيقة كل عاقل درَّاك منصف.
ولما كان إنكار الكافرين لليوم الآخر يتضمن عنصرين:
العنصر الأول : إنكار الجزاء .
العنصر الثاني : إنكار الحياة بعد الموت .
وجدنا أن النص القرآن الذي نتدبره يشتمل على معالجة هذين العنصرين جميعاً .
أما العنصر الأول فقد جاءت معالجته بعرض أمثلة تاريخية تم فيها تحقيق بعض الجزاء المعجل لأمم سافلة ، عاقبهم الله في الدنيا على كفرهم وتمرُّدهم على رسلهم ، ومعلوم أن تحقيق نماذج من الجزاء المعجل لا بد أن يلفت الانتباه إلى قانون الجزاء بوجه عام ، ولا بد أن ينبه أيضاً على أن ما لم يتحقق منه في ظروف هذه الحياة الدنيا سيتحقق حتماً في ظروف حياة أخرى .
وقد دل على هذا قول الله تعالى في هذا النص من سورة (الدخان):
{أَهُمْ خَيْرٌ أَمْ قَوْمُ تُبَّعٍ وَٱلَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ أَهْلَكْنَاهُمْ إِنَّهُمْ كَانُواْ مُجْرِمِينَ}
أي : كان إهلاك الله لهم على صورة فيها تعذيب عام بسبب أنهم كانوا مجرمين .
وأما العنصر الثاني فقد جاءت معالجته بلفت النظر إلى أن مقتضيات حكمة الخالق تقضي بأنه من غير الممكن أن تكون هذه الحياة الدنيا هي نهاية قصة وجود الإنسان ، وذلك لأنه لو كانت حياته هذه هي كامل قصة وجوده ونهايتها لكان خلقه ضرباً من اللعب تنزَّه الخالق عنه ، ولما كان هذا أمراً مستحيلاً عقلاً كان لا بد من وجود حياة أخرى تستكمل فيها وقائع قصته ، وفق مقتضيات الحكمة العظيمة التي تتناسب مع صفات الخالق العظيم ، وهذا ما نبه عليه قول الله تعالى في هذا النص أيضاً:
{وَمَا خَلَقْنَا ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لاَعِبِينَ * مَا خَلَقْنَاهُمَآ إِلاَّ بِٱلْحَقِّ وَلَـٰكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ}.
حينما نتساءل عن هذا الحق يأتينا الجواب القرآني ، فيوضح لنا أن الغاية هي ابتلاء الإنسان في الحياة الدنيا ، وبعد الامتحان يأتي الجزاء في الحياة الأخرى .
فمن النصوص التي أعلنت هذه الحقيقة قول الله تعالى في سورة (الملك/67 مصحف/77 نزول):
{تَبَارَكَ ٱلَّذِي بِيَدِهِ ٱلْمُلْكُ وَهُوَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * ٱلَّذِي خَلَقَ ٱلْمَوْتَ وَٱلْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَهُوَ ٱلْعَزِيزُ ٱلْغَفُورُ}
وبعد الابتلاء لا بد من الجزاء ، والجزاء الأمثل قد ادخره الله لحياة أخرى غير هذه الحياة الدنيا .
فالإيمان باليوم الآخر ركن أساسي من أركان الإيمان يأتي في التسلسل الفكري بعد الإيمان بالله تعالى وبكمال صفاته وعظيم حكمته .