دراسة موجزة لإمام من أئمة (العظم) الملحدين ، هو (برتراند رسل)
من كتاب :
صِرَاعُ مَعَ المَلاحِدَة حتى العظم
تأليف
عبد الرحمن حسن حبنّكة الميدان
مع برتراند رسل
اعتمد (العظم) في دعوته إلى الإلحاد على أقوال الفيلسوف الإنجليزي الملحد (برتراند رسل) الذي مات عام 1970 م ، بعد أن عاش قرابة قرن كامل .
إن هذا الفيلسوف على الرغم من سعة علمه ودراسته ، وعلى الرغم من أنه أمضى كل حياته باحثاً دارساً ، فإنه لم يهتد إلى تكوين فلسفة متكاملة كان يصبو إلى بلوغها .
وكان من الطبيعي أن لا يهتدي إلى فلسفة متكاملة بعد أن اتجه في طريق معاكس للحقيقة ، إذ اختار لنفسه طريق الإلحاد والكفر بالله . إنه لو عاش مئة قرن أو أكثر يبحث عن فلسفة متكاملة وهو ملتزم طريق الإلحاد فإنه لن يصل .
إن الباطل متاهة يضل فيها أزكى الناس وأعلمهم ، ما دام مصراً – لهوى في نفسه – أن يحيد عن الطريق التي سلكها من قبله جماهير العقلاء ، إنه لن يجد هذه الفلسفة المنشودة في المتاهة الفكرية التي سلكها بعيداً عن الطريق ، لأنه متى اهتدى فلا بد أن يعود إلى الطريق ، بيد أنه مصر على أن يظل بعيداً عنه فكيف يهتدي؟.
إنه سيستمر في المتاهة ، وسيظل باحثاً عن فلسفة متكاملة في مكان لا توجد فيه هذه الفلسفة ، شأنه في هذا كشأن من يحفر في جوانب الصخرة الصماء ليجد فيها عين ماء تُروي ظمأه ، وهذه الصخرة منقطعة عن الأرض من كل جوانبها ، فهي لا تتصل بأي عرق من عروق الماء .
ونظراً إلى واقع حال (رسل) التائه عن الحقيقة استطاع البروفسور (ألان وُود) أن يقرظه بقوله :
"برتراند رسل فيلسوف بدون فلسفة".
واقتباساً مما كتبه المفكر الإسلامي (وحيد الدين خان) ، أجمع هذه الدراسة عن هذا الفيلسوف الملحد .
ذكر وحيد الدين خان أنه قرأ كل أعمال "برتراند رسل" واستطاع بعد قراءتها أن يلتقط من أقواله ما يكشف عن النهايات الفكرية التي انتهى إليها .
إنه بعد أن درس الفيزياء ، وعلم الحياة ، وعلم النفس ، والمنطق الرياضي ، انتهى إلى أن مذهب "التشكيك (في الوجود) مستحيل نفسياً" ومع ذلك فإن الإنسان عاجز عن أن يحيط إلا بأقل قدر من المعرفة ، ويقول بالنسبة إلى الفلسفة : "تدَّعي الفلسفة منذ القدم ادعاءات كبيرة ، ولكن حصيلتها أقل بكثير بالنسبة إلى العلوم الأخرى".
وما اعترف به (رسل) بعد دراسة طويلة ذكره القرآن بتعبير بسيط ، إذ قال الله تعالى في سورة (الإسراء/17 مصحف/50 نزول):
{....وَمَآ أُوتِيتُم مِّن ٱلْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً}.
ويتضمن هذا البيان القرآني أن الإنسان لم يؤتَ من الوسائل العلمية التي يمكن أن تعرِّفه بالحقيقة إلا قدراً محدوداً جداً ، بيد أن الحقائق في الوجود كثيرة جداً ، ومن المتعذر على الوسائل المحدودة أن تدرك من الوجود الواسع إلا على مقدارها ، وكل زيادة على مقدارها دون مستند خارجي عنها يعتبر تكهناً ، وضرباً من الظن الاحتمالي الضعيف ، وهذا الظن لا يغني من الحق شيئاً .
فعجز الإنسان عن الوصول إلى معارف واسعة من حقائق الكون الباطنة يرجع إلى أن وسائله العلمية لا تستطيع أن تشاهد إلا ظواهر تأخذ منها علماً وصفياً للسطوح الظاهرة ، أما الحقائق الباطنة فلا سبيل إليها إلا عن طريق التفسير الاستدلالي أو الاستنتاجي ، وهذا التفسير الاستنتاجي لا يستطيع أن يحدد ماهية الحقيقة ، إنما قد يستطيع أن يشير إليها إلى بعض صفاتها وخصائصها .
ويقول (رسل): "إن تصورنا العملي للكون للكون لا تدعمه حواسنا التجريبية ، بل هو عالم مستنبط كلياً".
ويبلغ الأمر به إلى أن يقول : "إن أفكار الناس لا توجد إلا في مخيلاتهم فحسب" أي : إن التجربة لا تستطيع أن تثبت مطابقة هذه الأفكار للواقع .
وانتهى (رسل) أيضاً إلى أن التجربة أعطيت لها أكبر أهمية ، ولذلك يجب أن تخضع "التجريبية" كفلسفة لتحديات هامة .
يقول هذا حتى في النظريات والقوانين العلمية ، ومع ذلك فإنه يختار لنفسه مذهب الإلحاد ، ويعتمد على افتراضات لا يمكن إخضاعها للتجربة بحال من الأحوال ، وذلك بالنسبة إلى نشأة الكون والحياة ،ويرجح الداروينية مع أنها وجهة نظره فكرة استنباطية لا تدعمها التجربة ، ولا تزيد على أنها فكرة في مخيلات أصحابها .
وحين اعتمد (د. العظم) على أقوال (رسل) في نشوء الكون وتطوره ونشوء الحياة وتطورها ، إنما اعتمد على قول إنسان يرى أن ما يقوله في هذا المجال لا وجود له إلا في عالم التخيلات الإنسانية فحسب .
فكيف يصح له أن يستهين بعقول شبابنا وثقافة القارئ العربي ، فيزعم بعد أن عرض القطعة الأدبية التي كتبها "رسل" عن قصة الكون ونشأة الحياة ، أن (رسل) يلخص بكل بساطة النظرة العلمية الطبيعية للقضايا التالية: نشوء الكون وتطوره – نشوء الحياة وتطورها – أصل الإنسان ونشأته وتطوره – النهاية الحتمية لجميع الأشياء وهي العدم وأنه لا أمل لكائن بعدها بشيء؟
أهذه هي النظرة العلمية التي يعتقد المنقولة عنه أنه لا وجود لها إلا في مخيلة القائلين بها ، وليس لها مستند من الواقع يدعمها؟
ولكن هكذا راق لـ(د. العظم) أن يضلل . لقد قرر أنه لا وجود للحق والعدل والروح والجمال والخالق ، كما صرَّح بذلك في الصفحة (38) من كتابه ، لذلك فلا مانع عنده من أن ما يراه (رسل) تخيلاً يصح أن يطلق عليه عبارة النظرة العلمية المحققة ، فالقضية عنده لا تزيد على أنها وسائل دعائية جدلية لدعم مذهبه الإلحادي ، أما أن يكون الكلام حقاً أو باطلاً ، صدقاً أو كذباً ، قضية علمية أو تصوراً تخيلياً . فهذا غير مهم ألا يمكن أن يكون طرح مثل هذا التزييف وسيلة لتضليل بعض الناس؟ ألا يمكن أن يكون مثل هذا التزييف شبكة لصيد بعض المغفلين ، حتى يكونوا جنوداً مسخرين في أيدي المنظمة الإلحادية العالمية ، التي تعمل لخدمة مصالح معينة لفئة خاصة من الناس؟
لكن معظم شبابنا سيكتشفون بسرعة هذا الزيف ، وسيسخرون منه ، وسيقابلونه بالتحدي العلمي الذي تقوم عليه مبادئ الإسلام .
ويقول (رسل) أيضاً: "لقد وجدت أن معظم الفلاسفة قد أخطأوا في فهم الشيء الذي يمكن استنباطه بالتجربة فحسب ، والشيء الذي لا يمكن استنباطه بالتجربة".
ويقول أيضاً: "لسوء حظنا لم تعد الطبيعة النظرية تحدثنا اليوم بالثقة الرائعة نفسها التي كانت تحدثنا بها في القرن السابع عشر . لقد كانت لأعمال (نيوتن) أربعة تخيلات أساسية: المكان والزمان والمادة والقوة . وقد أصبحت هذه العناصر نسياً منسياً في علم الطبيعة الحديث . فقد كان الزمان والمكان من الأشياء الجامدة والمستقلة عند (نيوتن) والآن قد تم استبدالهما بما يسمى "المكان – الزمان" والذي لا يعتبر جوهرياً أساسياً ، وإنما هو نظام للروابط ، وأصبحت (المادة) شكلاً لسلسلة الوقائع ، وأصبحت (القوة) الآن (الطاقة) والطاقة نفسها شيء لا يمكن فصله عن المادة الباقية . والسبب كان هو الشكل الفلسفي لما كان يسميه علماء الطبيعة بالقوة ، وقد أصبح هذا التصور قديماً ، إن لم أقل : إنه قد مات فعلاً ، إلا أن هذه الفكرة لم تعد قوية كما كانت من قبل".
فهذا هو (برتراند رسل) يرى أن التفسيرات التي يفسر بها العلماء الماديون ظواهر الطبيعة تفسيرات لا تمثل الحقيقة الواقعة تمثيلاً يوثق به ، وهذه التفسيرات تخضع للتغير وفق اختلاف النظرات التي يراها الباحثون .
ويقول أيضاً: "إنه قد توصل بعد دراسات استنفدت كل عمره إلى أن الاستنباط الذي لا يمكن إيضاحه يعتبر أيضاً مقبولاً وجائزاً ، وعند رفض هذا النوع من الاستنباط سوف يصاب النظام الكامل للعلوم والحياة الإنسانية بالشلل".
ويقول أيضاً: "إن العلوم تشمل كلا العالمين : الحقيقي والعالم المتخيل وجوده . وكلما تقدم العلم ازداد فيه عنصر الاعتقاد ، فبعض الأشياء في العلوم حقائق مشاهدة ، ولكن الأشياء العليا تجريدات علمية يتم استنباطها بناءً على المشاهدة . والحقيقة أنه لا يمكن رفض مذهب الشك الكلي إطلاقاً ، إلا أنه مع ذلك يصعب قبول التشكيك الكلي في نفس الوقت".
ويقول أيضاً: "إنه لا يمكن الادعاء بالقطعية (في النظريات أو الآراء) على النحو الذي سار عليه الفلاسفة المتسرعون بكثرة وبدون جدوى".
فمن هذه الأقوال المقتبسة مما كتب (رسل) نلاحظ أن فلسفته تعتمد على الاعتراف بأن العلوم متى تجاوزت منطقة المدركات الحسية فإنها لا تملك معارف يقينية ، ولكن مع ذلك لا بد من قبول هذه المعارف التي يتوصل إليها بالاستنباط وإن لم تكن يقينية ، لئلا تتعطل الحياة العلمية وتقف عن الإنجاز ، إذ لا سبيل إلى اليقين فيها .
هذا هو مذهبه الفلسفي ، فليس هو من الذين لا يقبلون إلا ما يدرك بالحس المباشر أو غير المباشر ، وإنما يجعل ما يقبله من تفسيرات علمية مقبولاً بصفة ترجيحية ، لضرورة العجز عن الوصول إلى اليقين .
فما الذي صده عن الإيمان بالله ، والأدلةُ الاستنباطية الترجيحية عليه أقوى بكثير من التخيلات الأخرى التي يفسر بها الملحدون نشأة الكون وتطوره ، ونشأة الحياة وتطورها؟
هنا تظهر عقدة الهوى والتعصب ضد الدين عند (رسل) وعند سائر الملحدين ، وهذا التعصب لا تدعمه أدلة مرجحة لقضية الإلحاد ، بل ليس للإلحاد في الحقيقة أي دليل غير مجرد سفسطات وتخيلات تقوم في رؤوس أصحابها فقط ، إن التفسير البديل لقضية الإيمان بالخلق الرباني إنما هو فرضية الارتقاء وأزلية المادة ، أما أزلية المادة فقضية مرفوضة علمياً ، وأما الارتقاء فيعبر عنه السير "آرثر كيث" من علماء هذا العصر بقوله : "الارتقاء غير ثابت ، ولا يمكن إثباته ،ونحن نؤمن بهذه النظرية لأن البديل الوحيد هو (الإيمان) بالخلق المباشر ، وهو أمر لا يمكن حتى التفكير فيه".
وإذا تساءلنا لماذا لا يمكن التفكير فيه؟ كان الجواب الوحيد : لأنه لا يسمح له هواه بأن يعترف بالله الخالق ، وبأن يخضع له بعد ذلك خضوع العبادة والطاعة .
فتمرده وتمرد نظرائه تمرد المستكبرين المعاندين ، لا ضلال الجاهلين الذين لم تكشف لهم أضواء المعرفة طريق الحق .
و(د. العظم) حمّالُ أثقال في مؤخرة ركب الملحدين ، يردد ما يقولون ، وينعق بما يهرفون .
ما أعجب سلطان الهوى ، وسلطان التعصب ، وسلطان الالتزام بالمبادئ الحزبية على الناس .
إن هذه المؤثرات التي تجنح عنهم عن سواء السبيل تسوقهم إلى الشقاء الأبدي والعذاب الأليم ، وتجعلهم يؤثرون الضلال على الهدى ، والظلمات على النور .