الطبع على قلوب الكافرين
من كتاب :
صِرَاعُ مَعَ المَلاحِدَة حتى العظم
تأليف
عبد الرحمن حسن حبنّكة الميدان
من فطرة الإنسان إذا هو عاند وأصر على الباطل بعد معرفة الحق المبين ، وأعلن تكذيبه وكفره بالحق ، أن يصاب قلبه بالصمم ، وأن يتبلد حسه تجاه الحق والخير ، فإذا ألقي عليه الهدى أعرض عنه ولم يستمع إليه ، ولم يدرك جوانب الحق فيه ،ولم يتحرك وجدانه وضميره بعاطفة إيجابية نحو الخير ، ويكون كالصخر الأصم الذي لا يقبل ندى معرفة ، ولا يندى بعاطفة ،فإذا وصل الإنسان إلى هذا المستوى من القسوة وجفاف عواطف الخير ، فإنه يكون مغلف القلب مسدود المنافذ محجوباً بحجاب غليظ ، حتى يكون بمثابة البيت الذي أغلق بابه ، وضرب عليه بالأقفال ، ثم ختمت الأقفال بطابع الطين أو الشمع ، إشعاراً بوصولها إلى غاية إقفالها ، أو بمثابة المعدن الذي يعلوه الصدأ حتى يغشيه تغشية تامة ، ويحجبه حجباً كاملاً ، وهذا هو الران الذي يغشِّي قلوب الكافرين المكذبين ، وهو ما ورد في قول الله تعالى في شأنهم في سورة (المطففين/83 مصحف/86 نزول):
{كَلاَّ بَلْ رَانَ عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ مَّا كَانُواْ يَكْسِبُونَ * كَلاَّ إِنَّهُمْ عَن رَّبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّمَحْجُوبُونَ * ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصَالُو ٱلْجَحِيمِ}.
فالطبع على القلوب كناية عن بلوغها مستوى من القسوة وجفاف عواطف الخير . فهي لا تتأثر ببيان ، ولا تستجيب لموعظة . فكأنها بيوت مقفلة مطبوع عليها . أو قطعة من المعدن قد علاها الصدأ فغشاها .
دل على هذا جملة من النصوص القرآنية ، ويظهر لنا أيضاً من واقع حال الكافرين المعاندين المكذبين ، إذ تكون قلوبهم في حجاب كامل عن قبول أية معرفة تتصل بالحق الذي كذبوا به وجحدوه ، وتكون ضمائرهم ميتة لا تحس بمشاعر الخير الذي يدعوهم الحق إليه.
وسبب هذا الطبع الذي تصاب به قلوبهم كفرهم وتماديهم في الغي ، واستغراقهم في معاصيهم وذنوبهم . وهذه النتيجة هي من السنن الكونية التي حذَّر الله أهل القرى منها ، فقال – تعالى – في سورة (الأعراف/7 مصحف/39 نزول):
{أَوَلَمْ يَهْدِ لِلَّذِينَ يَرِثُونَ ٱلأَرْضَ مِن بَعْدِ أَهْلِهَآ أَن لَّوْ نَشَآءُ أَصَبْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَنَطْبَعُ عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لاَ يَسْمَعُونَ * تِلْكَ ٱلْقُرَىٰ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنبَآئِهَا وَلَقَدْ جَآءَتْهُمْ رُسُلُهُم بِٱلْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانُواْ لِيُؤْمِنُواْ بِمَا كَذَّبُواْ مِن قَبْلُ كَذَلِكَ يَطْبَعُ ٱللَّهُ عَلَىٰ قُلُوبِ ٱلْكَافِرِينَ}.
فأوضح الله تعالى في هذا النص أن من سنن كونه الطبع على قلوب الكافرين ، فهو نتيجة تحصل بسبب ما يكسب الكافرون بكفرهم وجحودهم من ذنوب ، وبسبب طول الأمل عليهم وهم مكذِّبون .
وفي نص آخر بيَّن الله تبارك وتعالى أن سبب الطبع على قلوب اليهود إنما هو كفرهم ، فقال تعالى في سورة (النساء/4 مصحف/92 نزول):
{فَبِمَا نَقْضِهِمْ مَّيثَاقَهُمْ وَكُفْرِهِم بَآيَاتِ ٱللَّهِ وَقَتْلِهِمُ ٱلأَنْبِيَآءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ ٱللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ فَلاَ يُؤْمِنُونَ إِلاَّ قَلِيلاً}
فالطبع على قلوبهم قد كان بسبب كفرهم وكان نتيجة له ، ولكن النتائج الطبيعية السببية والسنن الكونية إنما تتم بخلق الله ، ولذلك تنسب إلى الله تبارك وتعالى خلقاً وتقديراً ، مع أنها نتائج طبيعية لأعمال يكسبها الناس .
وتحدث الله عن المنافقين فبيَّن أن تحولهم من الإيمان إلى الكفر قد كان سبباً في الطبع على قلوبهم ، فقال تعالى في سورة (المنافقون/63 مصحف/104 نزول):
{...إِنَّهُمْ سَآءَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ * ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُواّ ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لاَ يَفْقَهُونَ}
ففي هذه الآية دلالة على أن الطبع على قلوبهم قد جعلها محجوبة عن تقبل المعارف الربانية ، فهم لا يفقهون منها ما يهديهم .
وقد تكرر في القرآن بيان الطبع على قلوب المنافقين ، وأنهم بذلك لا يفقهون ما يلقى إليهم من هداية ، ولا يعلمون ما يضرهم وينفعهم في عاقبة أمرهم ، فقال تبارك وتعالى في سورة (التوبة/9 مصحف/113 نزول):
{...وَقَالُواْ ذَرْنَا نَكُنْ مَّعَ ٱلْقَاعِدِينَ * رَضُواْ بِأَن يَكُونُواْ مَعَ ٱلْخَوَالِفِ وَطُبِعَ عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لاَ يَفْقَهُونَ }
وقال تعالى فيها أيضاً:
{...رَضُواْ بِأَن يَكُونُواْ مَعَ ٱلْخَوَالِفِ وَطَبَعَ ٱللَّهُ عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ}
أي: تخلفوا عن الخروج مع الرسول في غزوة تبوك ورضوا بأن يكونوا مع الخوالف ، أي: مع النساء ، وطبع على قلوبهم بسبب نفاقهم ومعاصيهم ، فهم لا يفقهون ولا يعلمون .
وأكد الله هذه الحقيقة عن المنافقين ، وذكر أنهم يتبعون أهواءهم ، وطبيعي أن من لا يفقه الحقيقة ولا يعلم العاقبة فلا بد أن يتبع هواه ، قال تعالى في سورة (محمد/47 مصحف/95 نزول):
{وَمِنْهُمْ مَّن يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حَتَّىٰ إِذَا خَرَجُواْ مِنْ عِندِكَ قَالُواْ لِلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلْعِلْمَ مَاذَا قَالَ آنِفاً أُوْلَـٰئِكَ ٱلَّذِينَ طَبَعَ ٱللَّهُ عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ وَٱتَّبَعُوۤاْ أَهْوَآءَهُمْ}
وخصَّ المنافقين بهذا الاهتمام في موضوع الطبع على قلوبهم لأنهم مخالطون للمؤمنين ، يستمعون أقوال الهداية باستمرار .
والطبع على القلوب يقترن به الطبع على الأسماع والأبصار ، لأنها أهم منافذ القلوب إلى مواد المعارف التي تأتي من خارج كيان الإنسان ، ولذلك قال الله تعالى في شأن من شرح بالكفر صدراً في سورة (النحل/16 مصحف/70 نزول):
{أُولَـٰئِكَ ٱلَّذِينَ طَبَعَ ٱللَّهُ عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ وَسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ وَأُولَـٰئِكَ هُمُ ٱلْغَافِلُونَ * لاَ جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي ٱلآخِرَةِ هُمُ ٱلْخَاسِرونَ}
* الأسباب المؤدية إلى الكفر فالطبع على القلوب :
وقد أشار القرآن إلى الأسباب الباعثة على كفر الكافرين والتي يتولدَّ عنها الطبع على قلوبهم ضمن سنن الله الثابتة ، وهي ثلاثة أسباب :
السبب الأول: النفسية العدوانية ، وفي الإشارة إلى هذا السبب يقول الله تعالى في سورة (يونس/10 مصحف/51 نزول):
{...كَذَلِكَ نَطْبَعُ عَلَىٰ قُلوبِ ٱلْمُعْتَدِينَ}
السبب الثاني: النفسية الجاهلة المنساقة مع الهوى ، والتي لا تريد أن تعلم الحق خشية أن تنغص عليها المعرفة ما هي فيه من استغراق في الفجور ، وفي الإشارة إلى هذا السبب يقول الله تعالى في سورة (الروم/30 مصحف/84 نزول):
{كَذَلِكَ يَطْبَعُ ٱللَّهُ عَلَىٰ قُلُوبِ ٱلَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ}
السبب الثالث: النفسية المستكبرة الجبارة ، وهذا أخطر الأسباب ، ولذلك يكون الطبع بسببه عل كل قلب متكبِّرٍ جبار ، وفي الإشارة إلى هذا السبب يقول الله تعالى في سورة (غافر/40 مصحف/60 نزول):
{....كَذَلِكَ يَطْبَعُ ٱللَّهُ عَلَىٰ كُـلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ}
أي: لا يقتصر على الطبع على بعض قلبه ، بل يكون عليه جميعاً .
* تنوع التعبيرات القرآنية للدلالة على حقيقة الطبع على القلوب ومنافذها:
لقد جاء التعبير في القرآن عن هذه الحقيقة التي شرحناها بعبارات مختلفة ، فكما رأينا جاء التعبير عنها بلفظ الطبع ، ثم جاء التعبير عنها بالأقفال على القلوب ، وجاء التعبير عنها بالختم إلى غير ذلك من ألوان في التعبير وكلها تحمل دلالات متقاربة لمدلول عليه واحد أو متقارب .
( أ ) فالتعبير بالأقفال على القلوب قد جاء في معرض الحديث عن المنافقين في سورة (محمد/47 مصحف/95 نزول):
{أَوْلَـٰئِكَ ٱلَّذِينَ لَعَنَهُمُ ٱللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَىٰ أَبْصَارَهُمْ * أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ ٱلْقُرْآنَ أَمْ عَلَىٰ قُلُوبٍ أَقْفَالُهَآ }.
ففي هذا النص تعبيران:
تعبير مباشر بأن نفاقهم قد سبَّب لهم الصمم عن قبول أقوال الهداية ، والعمى عن رؤية آيات الله البينات في أنفسهم وفي الكون من حولهم .
وتعبير غير مباشر ، وذلك بالنسبة إلى قلوبهم ، فقال تعالى : {أم على قلوب أقفالها}، وهذا كناية عن الحجب التي تحجب بها قلوبهم بسبب كفرهم ونفاقهم .
( ب ) والتعبير بالختم نجده في قول الله تعالى في أوائل سورة (البقرة/2 مصحف/87 نزول):
{إِنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ سَوَآءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ * خَتَمَ ٱللَّهُ عَلَىٰ قُلُوبِهمْ وَعَلَىٰ سَمْعِهِمْ وَعَلَىٰ أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عظِيمٌ }
فهؤلاء الذين كفروا بعد بيان الحق لهم وأصروا على كفرهم وعنادهم قد وصلوا إلى حالة من انطماس البصيرة وتبلُّد الحس لا ينفع معها الإنذار بسوء المصير ، لأنهم جحدوا اليوم الآخر وما فيه من جزاء ، فالإنذار وعدمه بالنسبة إليهم سواء {سواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون}، وظاهر أن السبب في ذلك هو ما وصلوا إليه من الختم على قلوبهم وعلى سمعهم ، وما جلَّل أبصارهم من غشاوة حجبتها عن رؤية آيات الله ودلائل وجوده ، وحكمته وعدله . وهذا الختم وهذه الغشاوة هما من النتائج الطبيعية لما هم فيه من الكفر المعاند ، بعد بيان الحق لهم بمختلف الوسائل .
ونجد التعبير بالختم في قول الله تعالى في سورة (الجاثية/45 مصحف/65 نزول):
{أَفَرَأَيْتَ مَنِ ٱتَّخَذَ إِلَـٰهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ ٱللَّهُ عَلَىٰ عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَىٰ سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَىٰ بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَن يَهْدِيهِ مِن بَعْدِ ٱللَّهِ أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ }
فهذا فريق من الناس قد اتخذ إلهه هواه ، فهو يعبد أهواء نفسه ، فيطيعها في أوامرها ونواهيها ، ويسارع في تحقيق مطالبها وشهواتها ، ولو كان في ذلك أذاه وضره وهلاكه ، ومن اتخذ إلهه هواه فقد ضل سواء السبيل ، ومن ضل بجنوحه واتباعه أهواء نفسه أضلَّه الله ، فحكم عليه بالضلال حكماً مبيناً على علم بواقع حالة الضال ، وإذا وصل الإنسان إلى هذا المستوى من الضلال واتباع الهوى قسا قلبه ، وران عليه ما كسب من إثم ، فحُجِب عن إدراك الحقائق الدينية الربانية ، غلِّف بغلاف شامل ،وختم على هذا الغلاف ، وكان شأن أدوات المعرفة لديه كشأن قلبه ، فيختم على سمعه أيضاً ، فلا يستمع إلى نصيحة ، ولا يتقبل موعظمة من مواعظ الهداية الربانية ، ويُجعل على بصره غشاوة ، فلا يرى آيات علم الله وحكمته وعدله المنبثة في الوجود .
ولهذا نِسَب تصيب صغراها العصاة من المؤمنين ، ونصيب كبراها الكافرين والمنافقين .
وقد يصغي المختوم على قلبه وسمعه إلى المواعظ إصغاءً صورياً ، إلا أن هذا الإصغاء الصوري ليس له أثر في النفس ، فوجود كعَدمه ،ويبقى بعده الإصرار والاستكبار ، كأن السامع لم يسمع من الهداية شيئاً ، وهذا المعنى قد بيَّنه الله تعالى بقوله في سورة (الجاثية/45 مصحف/65 نزول):
{تَلْكَ آيَاتُ ٱللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِٱلْحَق فَبِأَي حَدِيثٍ بَعْدَ ٱللَّهِ وَآيَاتِهِ يُؤْمِنُونَ * وَيْلٌ لكُل أَفَّاكٍ أَثِيمٍ * يَسْمَعُ آيَاتِ ٱللَّهِ تُتْلَىٰ عَلَيْهِ ثُمَّ يُصِرُّ مُسْتَكْبِراً كَأَن لَّمْ يَسْمَعْهَا فَبَشرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ * وَإِذَا عَلِمَ مِنْ آيَاتِنَا شَيْئاً ٱتَّخَذَهَا هُزُواً أُوْلَـٰئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ}
فهذا الأفاك الأثيم يسمع آيات الله تتلى ، ويظل مصراً على كفره ،مستكبراً في نفسه ، فكأنه لم يسمع شيئاً ، إن بينه وبين الاستماع الحقيقي المؤثر حجاباً من كبر نفسه واتباعه الهوى ، فهو مختوم على قلبه وسمعه .
فالتعبيرات قد جاءت في هذا المجال بالأقفال وبالختم وبالطبع ، ولعلها مستويات ثلاثة ، تبدأ بالأقفال ، كأقفال الأبواب ، ثم يكون الختم كالختم بالطين أو الشمع بالخاتم المنقوش بصورة متميزة ، وهذا الطبع يكون في آخر عمليات أحكام الغلق وتثبيته ، وهو كناية عن الانحجاب الكامل الذي تصل إليه قلوب الكافرين والمنافقين ، بعد مراحل من العناد والاستكبار .
وقبل الأقفال تتوارد النكت السوداء على القلوب نكتة فنكتة بسبب المعاصي القلبية حتى يجللها الران ، وهذا قد تتعرض له قلوب المؤمنين ولكن في مستوى ما دون الران .