جدالهم المستند إلى واقع امتيازهم بمتاع الحياة الدنيا زينتها
من كتاب :
صِرَاعُ مَعَ المَلاحِدَة حتى العظم
تأليف
عبد الرحمن حسن حبنّكة الميدان
بمنطق الكبر الطبقي أورد الكافرون طائفة من جدلياتهم الباطلة ، فمن ذلك ما قصه الله علينا بقوله في سورة (مريم/19 مصحف/44 نزول):
{وَإِذَا تُتْلَىٰ عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بِيِّنَاتٍ قَالَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ لِلَّذِينَ آمَنُوۤاْ أَيُّ ٱلْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَّقَاماً وَأَحْسَنُ نَدِيّاً * وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِّن قَرْنٍ هُمْ أَحْسَنُ أَثَاثاً وَرِءْياً}
فالكافرون يحتجون على سلامة مذهبهم بواقعهم المتميز بالرفاهية ، وكثرة ما بين أيديهم من متاع الحياة الدينا وزينتها ، وبارتفاع المكانة الاجتماعية على الطلائع الأولى من المؤمنين ، ويتصورون أن منطقهم السليم في الحياة هو الذي جلب لهم هذا الامتياز ، لذلك فلا يمكن أن يكون المؤمنون الذين هم دونهم في الثراء والرفاهية والمكانة الاجتماعية أعقل منهم وأعرف بالحق ، وقد اعتبروا هذا حجة كافية لتفضيل مذهبهم على ما ذهب إليه المؤمنون فقالوا للذين آمنوا : "أي الفريقين خير مقاماً وأحسن ندياً" ، أي : بما لدينا من فهم للأمور استطعنا أن نكون خيراً مقاماً في الحياة ، مالاً وثراءً وأثاثاً ورياشاً ورفاهية عيش ، واستطعنا أن نكون أحسن ندياً ، أي: أعظم جاهاً في المجالس ، وأحسن ترتيباً لها ، فكيف نتَّبع طريقتكم وأنتم دوننا مقاماً ومجلساً.
ومع أن هذا دليل ساقط لا قيمة له إلا أن أصحاب الامتياز الطبقي ، يريدون أن يجعلوه دليلاً ، لقد نفخ الكبر نفوسهم ، فتوهموا أن ما هم عليه هو الصواب ، وأن كل ما سواه خطأ ، وهكذا يفعل الكبر في النفوس .
ومقالتهم هذه نظير مقالتهم الأخرى التي ذكرها الله بقوله في سورة (الأحقاف/46 مصحف/66 نزول):
{وَقَالَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ لِلَّذِينَ آمَنُواْ لَوْ كَانَ خَيْراً مَّا سَبَقُونَآ إِلَيْهِ وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُواْ بِهِ فَسَيَقُولُونَ هَـٰذَآ إِفْكٌ قَدِيمٌ}
فهم بدافع الكبر الطبقي يرون أنفسهم أحق بأن يسبقوا إلى كل خير ، وإذا لم يسبقوا إلى الإيمان بل سبقهم إليه الذين هم دونهم في الطبقة الاجتماعية ، فهو إذن ليس بخير .
وهذا غاية الغرور بالنفس ، إذ يجعل صاحبه يتصور لنفسه العصمة عن الخطأ ، لذلك فهو غير مستعد لأن يغير موقفه ، أو يغير مذهبه ، أو يتنازل عن كفره أو شركه أو سلوكه .
وإذْ لم يهتدِ هؤلاء الكافرون بهدى الله ، ولم يؤمنوا بدينه ، فلا بد أن يقولوا عن الدين : هذا إفك قديم ، وظاهر أن هذا جدل كلامي لا أساس له حتى يكون حجة تطرح بين العقلاء ، وهو لا يعدو أن يكون لوناً من ألوان السباب والشتائم التي لا تصدر إلا عن الجاهلين .
وقد كانت طريقة القرآن في الرد على احتجاجهم بالتفوق الطبقي في متاع الحياة الدنيا وزينتها وجاهها بتقديم براهين من الواقع ، تثبت أن التفوق الطبقي لم يكلن ليحمي أصحابه الكافرين بالله من سخط الله ونقمته وشديد عقابه ، وهذا ما رد الله به على مقالتهم الواردة في سورة (مريم/19 مصحف/44 نزول):
{ وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِّن قَرْنٍ هُمْ أَحْسَنُ أَثَاثاً وَرِءْياً}
أي: فلم يحمِ هؤلاء من نزول عذاب الله فيهم علو طبقتهم الاجتماعية التي يدل عليها حسن أثاثهم ، وحسن مظهرهم وشارتهم وهيئتهم ، ولم تغن عنهم مكانتهم الاجتماعية شيئاً عند الله ، لقد أهلكهم الله بكفرهم ودمر عليهم تدميراً .
وهذا البرهان الواقعي من أقوى البراهين الدالة على فساد حجتهم التي احتجوا بها ، إذ زعموا أن امتياز طبقتهم الاجتماعية يلازمه صحة رأيهم ، إذ اختاروا لأنفسهم سبيل الكفر بالله على الإيمان به .
وما أكثر ما يفتتن الناس بزخرف هذا الدليل ، فيتبعون آراء أصحاب المكانات الاجتماعية القائمة على الامتياز بمتاع الحياة الدنيا وزينتها وجاهها ، معطلين أفكارهم وعقولهم عن البحث والتتبع للحقائق ببصر نافذ ومنطق سديد .