، ودعاهم إلى التعرف على هذه وتلك، الأولى ليقوموا بتعمير الأرض – وهو جزء من مهمة ((الخلافة)) التي خلق الإنسان من أجلها – والأخرى لتكون هذه الخلافة راشدة حين يتم تعمير الأرض بمقتضى المنهج الرباني .
لقد ظل القرآن يلفت نظر الناس إلى آيات الله في الكون وانتظامها ورتابتها ودقتها وانضباطها: (ألم تر إلى ربك كيف مد الظل ولو شاء لجعله ساكناً. ثم جعلنا الشمس عليه دليلاً. ثم قبضناه إلينا قبضاً يسيراً) (وآية لهم الأرض الميتة أحييناها وأخرجنا منها حباً فمنه يأكلون. وجعلنا فيها جنات من نخيل وأعناب وفجرنا فيها من العيون. ليأكلوا من ثمره وما عملته أيديهم. أفلا يشكرون. سبحان الذي خلق الأزواج كلها مما تنبت الأرض ومن أنفسهم ومما لا يعلمون. وآية لهم الليل نسلخ منه النهار فإذا هم مظلمون. والشمس تجري لمستقر لها. ذلك تقدير العزيز العليم. والقمر قدرناه منازل حتى عاد كالعرجون القديم. لا الشمس ينبغي لها أن تدرك القمر ولا الليل سابق النهار وكل في فلك يسبحون) (وفي الأرض آيات للموقنين. وفي أنفسكم أفلا تبصرون) وفهم المسلمون من هذه التوجيهات المتكررة أن الله يدعوهم إلى التأمل في هذا الكون من حولهم، ليتعرفوا على قدرة الله القادرة التي لا يعجزها شيء، وليتعرفوا كذلك على السنن الربانية التي أودعها في هذا الكون، والطاقات التي سخرها لهم فيه ليقوموا بعمارة الأرض، ويبتغوا من فضل الله : (وجعلنا الليل والنهار آيتين فمحونا آية الليل وجعلنا آية النهار مبصرة لتبتغوا فضلاً من ربكم ولتعلموا عدد السنين والحساب وكل شيء فصلناه تفصيلاً) (ما ترى في خلق الرحمن من تفاوت. فارجع البصر هل ترى من فطور) ومن ثم انطلقوا ((يدرسون)) هذا الكون ويتعرفون على أسراه.. فتقدم العلم على أيديهم تقدماً ضخماً، في الفيزياء والكيمياء والفلك والرياضيات والطب وغيرها من العلوم النظرية والتجريبية.. واكتشفوا – من بين ما اكتشفوا – أن هناك سبباً لكل شيء يحدث في الكون المادي، من نور وظلام، وكسوف وخسوف، ورياح ومطر، وجدب وخصب وزيادة ونقص.. الخ .. الخ .
ولكن اكتشاف ((السبب الظاهر)) لم يكن فتنة لهم كما كان بالنسبة لنيوتن ومن بعده من ((العلماء)) ! .
فلم يجعلوه بديلاً من السبب الحقيقي وهو الله سبحانه وتعالى، ولم يستغنوا به عن الله ، ولم يتصوروا أن له حتمية تقيد مشيئة الله الطليقة بحيث يعجز سبحانه عن التصرف في الكون بما يشاء، كما توهم نيوتن ومن بعده.
إنما عرفوا أن هذا ((السبب الظاهر)) هو ((السنة الجارية)) التي تجري شئون الكون المادي من خلالها، ومن ثم فهي ليست بديلاً من الله سبحانه وتعالى، وهي جزء من مشيئته، ولا تعارض بين تفسير أي أمر من أمور هذا الكون بسببه الظاهر وتفسيره بأنه راجع إلى مشيئة الله، ما دام السبب الظاهر أو ((السنة الجارية)) من مشيئة الله، ومن ثم فلا تعارض بين ما سموه ((الطبيعة)) وما سموه ((ما وراء الطبيعة)) بحيث يمتنع عليك الإيمان بهذه وتلك في آن واحد كما توهمت عقلانية ما بعد النهضة في أوربا، نتيجة أن ما وراء الطبيعة في ظل السيطرة الكنسية والحجر على العقل كان ينفي الأسباب الظاهرة أو لا يعول عليها في تفسير أمر من أمور الكون، وأن اكتشاف ((السبب الظاهر)) جاء في جو من العداء للدين والكنيسة، فوضع – من ثم – مناهضاً ومعادياً لما وراء الطبيعة، بالإضافة إلى أن القوم هناك ظلوا – في ظل الإيمان بما وراء الطبيعة على الطريقة الكنسية – في جهل مطبق بكثير مما يحيط بهم في هذا الكون، بينما جاء اكتشاف السبب الظاهر في وسط معلومات عن هذا الكون، وكما لم تكن معرفة المسلمين المبكرة بالأسباب الظاهرة وثبوت السنة الجارية مانعاً لهم من الإيمان بالمعجزات التي جاءت في الكتب المنزلة، كذلك لم يكن إيمانهم بالمعجزات داعياً إلى الخرافة، ولا الاعتقاد بأن الكون فوضى لا يضبطه ضابط ولا يربطه نظام. و((العلم)) الذي أخرجوه هو البرهان على ذلك . فقد كان هذا العلم من الدقة والانضباط –بحسب المتاح في وقته من الأدوات- لدرجة شهد لها كل منصف في التاريخ . ولكه شاهد بأن المسلمين كانوا يتعاملون مع هذا الكون على أساس أن هناك نظاماً دقيقاً يربطه. نظاماً من ((الأسباب)) و ((النتائج)) معجز بدقته، رائع بانضباطه: (ما ترى في خلق الرحمن من تفاوت. فارجع البصر هل ترى من فطور) ؟ .
إنما كانوا على ((التوازن)) الذي علمهم إياه الإسلام.. أما ((عقلانية)) النهضة وما بعدها فقد خرجت على الناس بأمور، غير معقولة ((على الإطلاق.. من نفي لوجود الله تارة، ومن إثبات له تارة أخرى مع نفي قدرته على التصرف، ومن جعل السبب الظاهر بديلاً من السبب الحقيقي، ومن جعل ثبوت الأسباب الظاهرة حتميات () تفرض نفسها على مشيئة الله !.
ودار الزمن دورة أخرى فانتقلت أوربا – فيما يقال – من سيادة العقل إلى سيادة الطبيعة، حين كشف العلم مزيداً من أسرار الكون واقتنع ((المفكرون)) أن الأصل الذي ينبغي الرجوع إليه هو ((الطبيعة)) لأنها هي التي تنقش في العقل ما يتولد فيه من أفكار. فليس مصدر المعرفة إذاً هو الوحي الرباني –وقد نبذوه وراءهم ظهرياً سواء منه ما كان حقيقياً بلا تحريف، وما اخترعته الكنيسة من عندها، وقالت إنه من وحي الله – ولا هو العقل ، الذي لا ينشئ – ولا ينبغي له أن ينشئ – شيئاً من عنده، إنما هو الطبيعة: هو عالم الحس.. هو الحقيقة الموضوعية..
يقول الدكتور محمد البهي في تلخيصه الجيد الذي نقلناه من قبل عن الفلسفة الوضعية وتقديرها للطبيعة : ((ومعنى تقديرها للطبيعة على هذا النحو أن الطبيعة – في نظرها – هي التي تنقش الحقيقة في ذهن الإنسان وهي التي توحي بها وترسم معالمها الواضحة. هي التي تكون عقل الإنسان، والإنسان –لهذا- لا يملى عليه من خارج الطبيعة، أي لا يملى عليه مما وراءها، كما يملى عليه من ذاته الخاصة، إذ ما يأتي من ما وراء الطبيعة خداع للحقيقة وليست (هي) حقيقة أيضاً! .
وبناء على ذلك يكون ((الدين)) – وهو وحي (أي ما بعد الطبيعة)- خداعاً ! وهو وحي ذلك الموجود الذي لا يحده ولا يمثله كائن من كائنات الطبيعة . هو وحي الله الخارج عن هذه الطبيعة كلية.. وكذلك (المثالية العقلية)) وهم لا يتصل بحقيقة هذا الوجود الطبيعي . إذ هي تصورات الإنسان من (عند) نفسه، من غير أن يستلهم فيها الطبيعة المنثورة التي يعيش فيها وتدور حوله.
إن عقل الإنسان في منطق هذه الفلسفة – أي ما فيه من معرفة- وليد الطبيعة التي تتمثل في الوراثة والبيئة والحياة الاقتصادية والاجتماعية . إنه مخلوق، ولكن خالقه الوجود الحسي)) () .
ولقد يفهم من هذا لأول وهلة أن العقلانية التي تتبعنا أطوارها في عصر النهضة وما بعدها قد انتهت وحل محلها طور جديد لا يمت لها بصلة.. ولكن هذا غير الواقع.
لقد تغير الإله المعبود عندهم بالفعل فلم يعد هو العقل، وإنما صار هو الطبيعة التي قال عنها دارون ((الطبيعة تخلق كل شيء ولا حد لقدرتها على الخلق)).
ولكن الإله الجديد لم يقتل الإله الأول، ولم يخرجه من الساحة ليحل محله. إنما قيده فقط بقيوده وأخضعه لشروطه، وإنما كان قد شد على يديه في حرارة مؤيداً ومؤازراً في نقطة واحدة معينة هي نفي الإله الحقيقي – سبحانه وتعالى – وإخراجه نهائياً من الساحة (نستغفر الله) ، وإن اختلفت زوايا الرصد واختلف ((المنطق)) المستخدم فالإله الأول –العقل- ينبذه بحجة أنه ((غير معقول))!! والإله الثاني –الطبيعة- ينبذه لأنه لا يدرك بالحس ولا يخضع للتجربة في المعمل!! تعالى الله عما يقولون علواً كبيراً..
إن المنهج التجريبي الذي تعلمته أوربا من المسلمين لم يؤت ثماره الظاهرة في ميدان العلم إلا في القرن التاسع عشر على وجه التقريب، ولكنه تحول عندهم إلى فتنة طاغية.. لأن أوربا أخذته دون أن تأخذ القاعدة الإيمانية التي كان يقوم عليها عند المسلمين ، وهي قاعدته الأصلية . فكأنه نبات انتزع من بيئته انتزاعاً وغرس في بيئة أخرى لا تناسب الأولى، ولا تشبهها في مكوناتها ومقوماتها، فطال وارتفع ، ولكنه أثمر ثماراً شيطانية غير الثمار الطيبة التي كان يؤتيها من قبل.
ولم يشعر المسلمون أن تفكرهم في آيات الله في الكون من أجل إخلاص العبادة له، مانع لهم من البحث عن السنن الكونية الربانية من أجل عمارة الأرض، ولم يشعروا كذلك أن البحث عن هذه السنن من أجل عمارة الأرض مانع لهم من إخلاص العبادة لله. لأنه لا تعارض في الحقيقة . والله يقول لهم: (وابتغ فيما آتاك الله الدار الآخرة ولا تنس نصيبك من الدنيا) .
ولا نستطيع أن نختم الحديث عن عقلانية الجاهلية ، والعقلانية المعاصرة بصفة خاصة، قبل أن نشير إلى قولة عجيبة وردت في كتاب من كتب سارتر، الكاتب الوجودي المعروف، ذات صلة بالموضوع ودلالة لا تحتاج إلى تعليق! وسارتر يهودي وإن كان كثير من الناس لا يعلمون ذلك! يقول في كتاب (تأملات في المشكلة اليهودية: إن اليهود متهمون بتهم ثلاث كبرى، هي عبادة الذهب، وتعرية الجسم البشري، ونشر العقلانية المضادة للإلهام الديني، ويقول إن التهم كلها صحيحة ! ثم يروح يقدم لكل منها ما يقدر عليه من المعاذير.
قال عن عبادة الذهب إن اليهود مضطهدون في كل الأرض وكل التاريخ، وإنهم لابد أن يسعوا إلى امتلاك القوة ليقاوموا هذا الاضطهاد. والوسيلة التي لجئوا إليها هي السعي إلى امتلاك الذهب وتجميعه ليكون لهم عدة وقوة ! .
وقال عن تعرية الجسم البشري إن اليهود متهمون بقبح أجسامهم وعدم استقامتها؟ فأرادوا أن يثبتوا للبشرية أن القبح كامن في الجسم البشري ذاته لا في أجسام اليهود وحدهم ! فعملوا على تعرية الجسم البشري ليستيقن البشر من هذه الحقيقة ! (أرأيت إلى مدى السخف والتهافت.. ؟!) .
أما نشر العقلانية المضادة للإلهام الديني (كما ورد في الترجمة الإنجليزية) فقد كشف فيه الغطاء دون مواربة ! قال : إنه طالما كان البشر يؤمنون بالدين، فسيظل يقع على اليهود تمييز مجحف على اعتبار أنهم يهود، أما إذا زال الدين من الأرض ، وتعامل البشر بعقولهم، فعقل اليهودي كعقل غير اليهودي، ويومئذ لن يتميز اليهود بكونهم يهوداً، ولن يقع عليهم التمييز المجحف، وسيعيشون في سلام مع غير اليهود)) (أي بعد أن يغطوا حقيقتهم ويندسوا في وسط البشرية مبهمين بين الجموع!!) .
ومهما يكن في هذا الكلام من المغالطات المكشوفة التي قصد بها التغطية على الأهداف الحقيقية لليهود من وراء هذه الأفعال (وهي نشر الفساد في صفوف الأميين لإفساد عقائدهم وأخلاقهم بالإضافة إلى سلب أموالهم ، لتيسير استعبادهم للشعب الشرير) . فإن ثبوت التهمة بشهادة شاهد من أهلها أمر غني عن التعليق(). ) ()
انتهى كلام الأستاذ محمد قطب حفظه الله، وهو كلام – بطوله – نفيس بيّن لنا فيه مراحل تطور العقلانية عند الغربيين إلى أن وصل بهم الحال إلى إقامته –أي العقل- مقام الإله فهو المرجع وإليه المآب.