وهذا هو الذي تدعيه نفاة الصفات والقدر ونحو ذلك من نصوص الكتاب والسنة .
وهؤلاء قولهم متناقض، فإنهم على أصلين فاسدين: فإنهم يقولون لابد من تأويل بعض الظواهر كما في قوله: ((جعت فلم تطعمني)). وقوله: ((الحجر الأسود يمين الله في الأرض))، ونحو ذلك. ثم أي نص خالف رأيهم جعلوه من هذا الباب، فيجعلون تارة المعنى الفاسد هو الظاهر، ليجعلوا في موضع آخر المعنى الظاهر فاسداً، وهم مخطئون في هذا وهذا.
ومضمون كلامهم أن كلام الله ورسوله في ظاهره كفر وإلحاد، من غير بيان من الله ورسوله للمراد .
وهذا قول ظاهر الفاسد، وهو أصل قول أهل الكفر والإلحاد. أما النصوص التي يزعمون أن ظاهرها كفر، فإذا تدبرت النصوص وجدتها قد بيّنت المراد، وأزالت الشبهة، فإن الحديث الصحيح لفظه: ((عبدي، مرضت فلم تعدني. فيقول: كيف أعودك وأنت رب العالمين؟ فيقول: أما علمت أن عبدي فلاناً مرض، فلو عدته لوجدتني عنده)).
فنفس ألفاظ الحديث نصوص في أن الله نفسه لا يمرض. وإنما الذي مرض عبده المؤمن. ومثل هذا لا يقال ظاهره أن الله يمرض، فيحتاج إلى تأويل؛ لأن اللفظ إذا قرن به ما بيّن معناه، كان ذلك هو ظاهره كاللفظ العام، إذا قرن به استثناء أو غاية أو صفة، كقوله: (فلبث فيهم ألف سنة إلا خمسين عاماً) وقوله: (فصيام شهرين متتابعين) ونحو ذلك، فإن الناس متفقون على أنه حينئذ ليس ظاهره ألفاً كاملة ولا شهرين، سواء كانا متفرّقين أو متتابعين().
وأما قوله: الحجر الأسود يمين الله في الأرض، فهو أولاً: ليس من الحديث الصحيح الثابت عن النبي e ، فلا نحتاج أن ندخله في الباب. ولكن هؤلاء يقرنون بالأحاديث الصحيحة أحاديث كثيرة موضوعة، ويقولون بتأول الجميع، كما فعل بشر المريسي ومحمد بن شجاع الثلجي وأبو بكر بن فورك في كتاب ((مشكل الحديث)) حتى أنهم يتأولون حديث عرق الخيل وأمثاله من الموضوعات.
فحديث: الحجر الأسود يمين الله في الأرض، هو معروف من كلام ابن عباس، ورُوى مرفوعاً، وفي رفعه نظر. ولفظ الحديث: الحجر الأسود يمين الله في الأرض. فمن صافحة أو قبّله فكأنما صافح الله وقبل يمينه. ففي لفظ هذا الحديث أنه يمين الله في الأرض، وأن المصافح له كأنما صافح الله وقبل يمينه. ومعلوم أن المشبه ليس هو المشبه به. فهذا صريح في أنه ليس هو نفس صفة الله، فلا يمكن أحد أن يأتي بنص صحيح صريح يدل على معنى فاسد. من غير بيان للنص أصلاً. فالحمد لله الذي سلّم كلامه وكلام رسوله من كل نقص وعيب. وسبحان ربك رب العزة عما يصفون. وسلام على المرسلين لسلامة ما قالوه من النقص والعيب. والحمد لله رب العالمين .
وأما الخطأ الثاني فيأتون إلى نصوص صحيحة دالة على معانٍ دلالة بينة، بل صريحة قطعية، كأحاديث الرؤية ونحوها، مما فيه إثبات الصفات. فيقولون: هذه تحتاج إلى التأويل كتلك، وقد تبين استغناء كل من الصنفين عن التحريف، وأن التفسير الذي به يعرف الصواب قد ذكر ما يدل عليه في نفس الخطاب: إما مقروناً به، وإما في نص آخر.
ولهذا لما لم يكن لهم قانون قويم، وصراط مستقيم، في النصوص، لم يوجد أحد منهم يمكنه التفريق بين النصوص التي تحتاج إلى تأويل والتي لا تحتاج إليه، إلا بما يرجع إلى نفس المتأول المستمع للخطاب، لا بما يرجع إلى نفس المتكلم بالخطاب، فنجد من ظهر له تناقض أقوال أهل الكلام والفلاسفة، كأبي حامد وأمثاله، ممن ينظنون أن في طريقة التصفية نيل مطلوبهم، يعوّلون في هذا الباب على ذوقهم وكشفهم، فيقولون: إن ما عرفته بنور بصيرتك فقّرره، وما لم تعرفه فأوّله.
ومن ظن أن في كلام المتكلمين ما يهدي إلى الحق، يقول: ما ناقض دلالة العقل وجب تأويله، وإلا فلا .
ثم المعتزلي –والمتفلسف الذي يوافقه – يقول: إن العقل يمنع إثبات الصفات وإمكان الرؤية .
ويقول المتفلسف الدهري: إنه يمنع إثبات معاد الأبدان، وإثبات أكل وشربٍ في الآخرة، ونحو ذلك.
فهؤلاء، مع تناقضهم، لا يجعلون الرسول نفسه نصب في خطابه دليلاً يفرق به بين الحق والباطل، والهدى والضلال، بل يجعلون الفارق هو ما يختلف باختلاف الناس من أذواقهم وعقولهم.
ومعلوم أن هذا نسبة للرسول إلى التلبيس وعدم البيان، بل إلى كتمان الحق وإضلال الخلق، بل إلى التكلم بكلام لا يعرف حقه من باطله، ولهذا كان حقيقة أمرهم الإعراض عن الكتاب والرسول، فلا يستفيدون من كتاب الله وسنة رسوله شيئاً من معرفة صفات الله تعالى، بل الرسول معزول عندهم عن الإخبار بصفات الله تعالى نفياً وإثباتاً، وإنما ولايته عندهم في العمليات – أو بعضها- مع أنهم متفقون على أن مقصوده العدل بين الناس وإصلاح دنياهم.
ثم يقولون مع ذلك: إنه أخبرهم بكلام عن الله وعن اليوم الآخر: صار ذلك الكلام سبباً للشر بينهم والفتن والعداوة والبغضاء، مع ما فيه عندهم من فساد العقل والدين، فحقيقة أمرهم أنه أفسد دينهم ودنياهم. وهذا مناقض لقولهم: إنه أعقل الخلق وأكملهم، أو من أعقلهم وأكملهم، وأنه قصد العدل ومصلحة دنياهم.
فهم مع قولهم المتضمن للكفر والإلحاد، يقولون قولاً مختلفاً، يؤفك عنه من أفك، متناقض غاية التناقض، فاسد غاية الفساد.
الوجه الحادي والثلاثون : وهو أن يقال : حقيقة قول هؤلاء الذين يجوزون أن تعارض النصوص الإلهية النبوية بما يناقضها من آراء الرجال، أن لا يحتج بالقرآن والحديث على شيء من المسائل العلمية، بل ولا يستفاد التصديق بشيء من أخبار الله ورسوله، فإنه إذا جاز أن يكون فيما أخبر الله به ورسوله في الكتاب والسنة أخبار يعارضها صريح العقل، ويجب تقديمه عليها من غير بيان من الله ورسوله للحق الذي يطابق مدلول العقل، ولا لمعاني تلك الأخبار المناقضة لصريح العقل، فالإنسان لا يخلو من حالين، وذلك لأن الإنسان إذا سمع خطاب الله ورسوله الذي يخبر فيه عن الغيب: فإما أن يقدر أن له رأياً مخالفاً للنص، أو ليس له رأي يخالفه، فإن كان عنده مما يسميه معقولاً ما يناقض خبر الله ورسوله، وكان معقوله هو المقدّم، قدّم معقوله وألغى خبر الله ورسوله وكان حينئذٍ كل من اقتضى عقله مناقضة خبر من أخبار الله ورسوله قدم عقله على خبر الله ورسوله، ولم يكن مستدلاً بما أخبر الله به ورسوله على ثبوت مخبره، بل ولم يستفد من خبر الله ورسوله فائدة علمية، بل غايته أن يستفيد إتعاب قلبه فيما يحتمله ذلك اللفظ من المعاني التي لا يدل عليها الخطاب إلا دلالة بعيدة ليصرف إليها اللفظ.
ومعلوم أن المقصود بالخطاب الإفهام، وهذا لم يستفد من الخطاب الإفهام، فإن الحق لم يستفده من الخطاب بل من عقله، والمعنى الذي دلّ عليه الخطاب الدلالة المعروفة لم يكن المقصود بالخطاب إفهامه، وذلك المعنى البعيد الذي صرف الخطاب إليه، قد كان عالماً بثبوته بدون الخطاب، ولم يدله عليه الخطاب الدلالة المعروفة، بل تعب تعباً عظيماً حتى أمكنه احتمال الخطاب له، مع أنه لا يعلم أن المخاطب أفاده بالخطاب، فلم يكن في خطاب الله ورسوله على قول هؤلاء، لا إفهام ولا بيان، بل قولهم يقتضي أن خطاب الله ورسوله إنما أفاد تضليل الإنسان، وإتعاب الأذهان، والتفريق بين أهل الإيمان، وحصول العداوة بينهم والشنآن، وتمكين أهل الإلحاد والطغيان، من الطعن في القرآن والإيمان.
وأما إن لم يكن عنده ما يعارض النص، مما يسمى رأياً ومعقولاً وبرهاناً ونحو ذلك، فإنه لا يجزم بأنه ليس في عقول جميع الناس ما يناقض ذلك الخبر الذي أخبر الله به ورسوله.
ومن المعلوم أن الدلالات التي تسمى عقليات، ليس لها ضابط، ولا هي منحصرة في نوع معين، بل ما من أمةٍ إلا ولهم ما يسمونه معقولات.
واعتبر ذلك بأمتنا، فإنه ما من مدة إلا وقد يبتدع بعض الناس بدعاً: يزعم أنها معقولات.
ومعلوم أن عصر الصحابة وكبار التابعين لم يكن فيه من يعارض النصوص بالعقليات، فإن الخوارج والشيعة حدثوا في آخر خلافة عليّ، والمرجئة والقدرية حدثوا في أواخر عصر الصحابة، وهؤلاء كانوا ينتحلون النصوص ويستدلون بها على قولهم، لا يدّعون أنهم عندهم عقليات تعارض النصوص.
ثم أتباع هذه الطوائف يحدثون من الحجج العقلية على قول متبوعهم ما لم تكن عند متبوعهم، فيكون –بزعمهم- قد تبين لهم من العقليات النافية ما لم يتبين لمتبوعهم.
واعتبر ذلك بما تجده من الحجج لأبي الحسين البصري وأمثاله مما لم يسبقه إليها شيوخه، وما تجده لأبي هاشم، ولأبي علي الجبائي، وعبد الجبار بن أحمد مما لم يسبقهم إليها شيوخهم .
بل أبو المعالي الجويني، ونحوه ممن انتسب إلى الأشعري، ذكروا في كتبهم من الحجج العقليات النافية للصفات الخبرية ما لم يذكره ابن كلاب والأشعري وأئمة أصحابهما، كالقاضي أبي بكر بن الطيب وأمثاله، فإن هؤلاء متفقون على إثبات الصفات الخبرية، كالوجه واليد، والاستواء.
فتبين أن من جوز على خبر الله، أو خبر رسوله، أن يناقضه شيء من المعقول الصريح، لم يمكنه أن يصدق بعامة ما أخبر الله به ورسوله من الغيب، لا سيما والأمور الغائبة ليس للمخبرين بها خبرة يمكنهم أن يعلموا بعقولهم ثبوت ما أخبر به، أو انتفاء جميع ما تتخيله النفوس من المعارضات له.
بل إذا كانت الأمور المشاهدة الحسية، وما يبنى عليها من العلوم العقلية، قد وقع فيها شبهات كثيرة عقلية تعارض ما علم بالحس أو العقل، وكثير من هذه الشبه السوفسطائية يعسر على كثير من الناس –أو أكثرهم- حلها، وبيان وجه فسادها، وإنما يعتصمون في ردها بأن هذا قدح فيما علم بالحس أو الضرورة فلا يستحق الجواب، فيكون جوابهم عنها أنها معارضة للأمر المعلوم الذي لا ريب فيه، فيعلم أنها باطلة من حيث الجملة، وإن لم يذكر بطلانها على وجه التفصيل.
ولو قال قائل: هذه الأمور المعلومة لا تثبت إلا بالجواب عما يعارضها من الحجج السوفسطائية، لم يثبت لأحدٍ علم بشيء من الأشياء، إذ لا نهاية لما يقوم بنفوس بعض الناس من الحجج السوفسطائية.
فهكذا تصديق خبر الله ورسوله، قد علم علماً يقينياً أنه صدق مطابق لمخبره، وعلمنا بثبوت جميع ما أخبر به أعظم من علمنا بكل فردٍ من علومنا الحسية والعقلية، وإن كنا جازمين بجنس ذلك، فإن حسنا وعقلنا قد يعرض له من الغلط ما يقدح في بعض إدراكاته كالشبه السوفسطائية.
وأما خبر الله ورسوله فهو صدق، موافق لما الأمر عليه في نفسه، لا يجوز أن يكون شيء من أخباره باطلاً، ولا مخالفاً لما هو الأمر عليه في نفسه، ويعلم من حيث الجملة أن كل ما عارض شيئاً من أخباره وناقضه، فإنه باطل من جنس حجج السوفسطائية، وإن كان العالم بذلك قد لا يعلم وجه بطلان تلك الحجج المعارضة لأخباره.
وهذه حال المؤمنين للرسول، الذي علموا أنه رسول الله الصادق فيما يخبر به، يعلمون من حيث الجملة أن ما ناقض خبره فهو باطل، وأنه لا يجوز أن يعارض خبره دليل صحيح: لا عقلي، ولا سمعي، وأن ما عارض أخباره من الأمور التي يحتج بها المعارضون ويسمونها عقليات، أو برهانيات، أو وجديات، أو ذوقيات، أو مخاطبات، أو مكاشفات، أو مشاهدات، أو نحو ذلك من الأمور الدهّاشات، أو يسمون ذلك تحقيقاً، أو توحيداً، أو عرفاناً، أو حكمة حقيقية، أو فلسفة، أو معارف يقينية، ونحو ذلك من الأسماء التي يسميها بها أصحابها، فنحن نعلم علماً يقينياً لا يحتمل النقيض أن تلك جهليات، وضلالات، وخيالات، وشبهات مكذوبات، وحجج سوفسطائية، وأوهام فاسدة، وأن تلك الأسماء ليست مطابقة لمسمّاها، بل هي من جنس تسمية الأوثان آلهة وأرباباً، وتسمية مسيلمة الكذاب وأمثاله أنبياء : (إن هي إلا أسماءٌ سميتموها أنتم وآباؤكم ما أنزل الله بها من سلطان إن يتبعون إلا الظن وما تهوى الأنفس ولقد جاءهم من ربهم الهدى) . والمقصود أنه من جوز أن يكون فيما علمه بحسه وعقله حجج صحيحة تعارض ذلك، لم يثق بشيء من علمه، ولم يبق له طريق إلى التصديق بشيء من ذلك.
فهكذا من جوّز أن يكون فيما أخبر الله به ورسوله حجج صحيحة تعارض ذلك لم يثق بشيء من خبر الله ورسوله، ولم يبق له طريق إلى التصديق بشيء من أخبار الله ورسوله.
ولهذا كان هؤلاء المعرضين عن الكتاب، المعارضين له، سوفسطائية منتهاهم السفسطة في العقليات، والقرمطة في السمعيات، يتأولون كلام الله وكلام رسوله بتأويلات يعلم بالاضطرار أن الله ورسوله لم يردها بكلامه، وينتهون في أدلتهم إلى ما يعلم فساده بالحس والضرورة العقلية.
ثم إن فضلاءهم يتفطّنون لما بهم من ذلك فيصيرون في الشك والحيرة والارتياب، وهذا منتهى كل من عارض نصوص الكتاب.
وإذا كان قد علم بالاضطرار من دين الإسلام أن التصديق الجازم بما أخبر به الرسول حق واجب، وطريق هؤلاء تناقضه، علم بالضرورة من دين الإسلام أن طريق هؤلاء فاسدة في دين الإسلام، وهذه هي طريقة أهل الإلحاد في أسماء الله وآياته.
وإذا كان ما أوجب الشك والريب ليس بدليل صحيح، وإنما الدليل ما أفاد العلم واليقين، وطريق هؤلاء لا يفيد العلم واليقين، بل يفيد الشك والحيرة، علم أنها فاسدة في العقل، كما أنها إلحاد ونفاق في الشرع.
فهكذا من جوّز أن يكون فيما أخبر الله به ورسوله حجج صحيحة تعارض ذلك لم يثق بشيء من خبر الله ورسوله، ولم يبق له طريق إلى التصديق بشيء من أخبار الله ورسوله.
ولهذا كان هؤلاء المعرضين عن الكتاب، المعارضين له، سوفسطائية منتهاهم السفسطة في العقليات، والقرمطة في السمعيات، يتأولون كلام الله وكلام رسوله بتأويلات يعلم بالاضطرار أن الله ورسوله لم يردها بكلامه، وينتهون في أدلتهم إلى ما يعلم فساده بالحس والضرورة العقلية.
ثم إن فضلاءهم يتفطّنون لما بهم من ذلك فيصيرون في الشك والحيرة والارتياب، وهذا منتهى كل من عارض نصوص الكتاب.
وإذا كان قد علم بالاضطرار من دين الإسلام أن التصديق الجازم بما أخبر به الرسول حق واجب، وطريق هؤلاء تناقضه، علم بالضرورة من دين الإسلام أن طريق هؤلاء فاسدة في دين الإسلام، وهذه هي طريقة أهل الإلحاد في أسماء الله وآياته.
وإذا كان ما أوجب الشك والريب ليس بدليل صحيح، وإنما الدليل ما أفاد العلم واليقين، وطريق هؤلاء لا يفيد العلم واليقين، بل يفيد الشك والحيرة، علم أنها فاسدة في العقل، كما أنها إلحاد ونفاق في الشرع.