style="text-align: justify" dir="rtl" class="MsoNormal" align="right"> مغالطات الناقد هنا تعتمد على التلاعب بالمفاهيم الإسلامية لتشويه صورتها ، وترتيب النقد ترتيباً يناسب هذه الصورة المشوهة .
ولنا في كشف مغالطاته هذه وجهان:
الوجه الأول: أن أوامر الله لا تتناقض ، فلا يمكن أن ينهى عن عبادة غير في الوقت الذي يأمر فيه بعبادة غيره ، ولا يمكن أن يأمر بعبادة غيره في الوقت الذي ينهى فيه عن عبادة غيره .
إذا تقررت لدينا هذه الحقيقة علمنا أن أمر الله الملائكة بالسجود لآدم ليس أمراً بعبادته قطعاً ، لأن الله نهى عن الشرك به .
ويمكن تفسير أمر السجود بعد هذا بأنه سجود احترام لا سجود عبادة ، ويمكن تفسيره أيضاً بأنه سجود عبادة لله تعالى ، وكان آدم في هذا السجود قبلة التوجه الجسدي فقط ، كما أن الكعبة قبلتنا حينما نعبد الله في الصلاة .
الوجه الثاني: أن أصل الشرك بالله هو اعتقاد أنه يوجد إله غير الله ينفع أو يضر أو يستحق العبادة لذاته ، ولهذا الشرك تعبيرات قولية أو عملية .
والتعبيرات القولية تدل بوضعها اللغوي الاصطلاحي على مدلولاتها ، فإذا قالها قائل قاصداً لمعانيها وفق مصطلحاتها اللغوية دل على أنه قد أشرك بالله في عقيدته .
والتعبيرات العملية تدل أيضاً بوضعها الاصطلاحي المتعراف عليه على مدلولاتها الاصطلاحية ، فإذا فعلها فاعل قاصداً مدلولاتها الاصطلاحية المتضمنة معنى الشرك باله في العبادة دل على أنه قد أشرك بالله .
وهنا نلاحظ أن حركات العبادة لله تعالى حركات لا تختص في الاصطلاح بمعاني العبادة ما لم تقترن بما يدل على أنها عبادة ، من نية في النفس ، أو هيئة تركيبية خاصة في صورة معينة ، ذات مراسيم وأقوال خاصة ، كالصلاة ذات الركوع والسجود والقراءات والأذكار والأدعية ، وكالطواف حول الكعبة ، وكالسعي بين الصفا والمروة ، ونحو ذلك .
وقد كان الركوع والسجود عند كثير من الأمم والشعوب القديمة تعبيراً عن الاحترام والتقدير ، وليس تعبيراً عن عبادتهم لمن يسجدون أو يركعون له ، كما تكون صورة الركوع أو السجود لأعمال عادية بحتة ، أو أعمال رياضية .
ومن سجود الاحترام والتقدير سجود إخوة يوسف له .
ومن هذا يظهر لنا بوضوح أن عملية السجود ليست تعبيراً ملازماً لمعنى العبادة في كل الأحوال ، أو في كل المصطلحات ، ولذلك كان من يسجد صورة لله وهو في قلبه ونفسه غير ساجد له فإنه لا يكون لله عابداً .
فلا بد من التعبير المادي من أن يكون مقترناً بالنية التي تحدد القصد منه ، والملائكة لم يقترن سجودهم لآدم بنية عبادة له مطلقاً ، وإنما كانوا يعبدون الله الذي أمرهم بالسجود ، ولا يشركون بعبادته أحداً ، ولو سجد إبليس لكان سبيله سبيلهم .
نعم لا نجيز في الشريعة الإسلامية السجود لغير الله ، ولو على سبيل الاحترام لا على سبيل العبادة ، لأن الشريعة الإسلامية التي جاءت خاتمة الشرائع الربانية قد منعت من ذلك ، فنحن نتَّبع أحكامها ، وسر المنع دخول مفاهيم الشرك بالله في الواقع الإنساني الجاهلي ، واتخاذ هذا الشرك طابع عبادة غير الله بالسجود والدعاء والقرابين ونحو ذلك ، فلما نزلت شرائع الإسلام منعت هذه الظاهرة كلها سداً للباب ، ولم يكن هذا الشرك ولا تعبيراته ولا مصطلحاته معروفة لا عند الملائكة ولا عند إبليس ، حتى يجعله سيادة الناقد واقعاً في تصور إبليس ، ولذلك رفض السجود لآدم .
وهكذا تظهر لنا مغالطته في نقل مصطلحات حديثة إلى زمن لم يكن فيه للشرك وجود مطلقاً ، والمغالطة هنا تعتمد على تعميم المصطلحات الزمنية وجعلها مصطلحات ثابتة من الأزل إلى الأبد .
مع أن لكل زمن مصطلحاته ، ولكل أمة مصطلحاتها ، والثابت إنما هي المعاني الحقيقية التي يُدَلُّ عليها بأي مصطلح قولي أو عملي ، أو أي وسيلة أخرى من الوسائل التي تدرك بالسمع أو بالبصر أو باللمس أو بغيرها .
لقد تأكد لدينا بعد هذا البيان أن التناقض في الأوامر الإلهية مستحيل بداهة ، وممنوع قبوله في المفاهيم الدينية ، ولا يقع هذا التناقض إلا في ذهن جاهل أساء الفهم أساء التصور ، أو في أقوال مضلِّل هدفه أن يشك الناس بدينهم .
ويدَّعي الناقد (د. العظم) وجود التناقض بين الأمر الإلهي والمشيئة الإلهية ، فيقول في الصفحة (89) من كتابه:
"لقد شاء الله وجود أشياء كثيرة غير أمر عباده بالابتعاد عنها ، كما أنه أمرهم بأشياء ولكنه أرادهم أن يحققوا أشياء أخرى ، لذلك باستطاعتنا القول بأن الله أمر إبليس بالسجود لآدم ، ولكنه شاء له أن يعصي الأمر ، ولو شاء الله لإبليس أن يقع ساجداً لوقع ساجداً لتوه ، إذ لا حول ولا قوة للعبد على ردِّ المشيئة الإلهية".
هذا كلام يخدع بظاهره ، ولكنه يتضمن مفاهيم فاسدة مأخوذة من مفاهيم الجبريين ، ومذهب الجبريين مذهب فاسد استغله "سيادة" الناقد هنا ، ليظهر أن الصفات الإلهية في مفاهيم المسلمين قد تتناقض ، وأن المسلمين يقبلون فيها هذا التناقض ، ثم ليتخذ كل ذريعة لنقض قضية الإيمان من أساسها .
لقد أوضحنا فيما سبق أن المشيئة الإلهية لا تتناقض مع نفسها بحال من الأحوال ، فلا يمكن أن تتوجه مشيئتان متناقضتان لشيء واحد في وقت واحد . فإذ تتوجه المشيئة الإلهية لإيجاد الكون في وقت معين ، يستحيل عقلاً وواقعاً أن تتوجَّه هذه المشيئة نفسها لعدم إيجاد الكون في ذلك الوقت ،والمشيئة النافذة هي المشيئة وغير النافذة ليست بمشيئة .
وإذ تتوجه المشيئة الإلهية لمنح الإنسان حرية الإرادة في اختيار سبيله في الحياة ، يستحيل عقلاً وواقعاً أن تتوجه هذه المشيئة لسلب هذا الإنسان حرية الإرادة ، وجعله مجبراً على اختيار سبيله في الحياة .
وهكذا في كل مشيئة كلية وجزئية ، ولكن لا بد من ملاحظة ضوابط التناقض المنطقية ، حتى يتحقق الامتناع العقلي ، وتتحقق الاستحالة المذكورة ، وذلك بأن يتوارد السلب والإيجاب على حكم اتحد فيه الموضوع والمحمول والزمان والمكان وسائر الوحدات المنطقية التي لها صلة أساسية في وحدة الموضوع والمحمول ، وحين ينعدم هذا الاتحاد يسقط التناقض أصلاً.
وذلك كأن نقول : الإنسان ممنوح حرية الإرادة في أعماله التي يعتبر مسؤولاً عنها ، مسلوب حرية الإرادة في أعماله غير الإرادية التي لا يعتبر مسؤولاً عنها ، كالرعشات ، وحركاته وهو نائم وما يجري فيه من تغيرات وتطورات حياتية لا تتحكم إرادته بها ، فهذا ليس بتناقض لأنه لم يتوارد السلب والإيجاب على متَّحد الوحدات المنطقية .
ومعلوم في الأوليات المنطقية أنه متى انفكَّت الجهة واختلَّت ضوابط الوحدة انحلَّ التناقض .
ولنفي الرأي الجبري ، وإثبات أن الله منح الإنسان حرية الإرادة في كل أعماله الإرادية التي يعتبر مسؤولاً عنها ومحاسباً عليها ، وفي كل وجوده نشاطه الذي هو ساحة تكليفه في الحياة ، وساحة اختباره وامتحانه ، تتضح لنا الأدلة التالية :
أولاً: كل مخلوق يوضع موضع الامتحان فلا بد أن يكون حر الاختيار بين أكثر من طريق أو أكثر من عمل وإلا لم يكن للامتحان مغزى ، وكان عبثاً من العبث ، ولا يفعل هذا عالم حكيم .
ثانياً: يستحيل عقلاً أن يتوجه أمر التكليف الإلهي لكائن لا يملك في نفسه القدرة على اختيار الطاعة ، وذلك لأن الله جلَّ وعلا حكيم ، ولا يوجه أوامر التكليف لمجرد العبث ، إنه تعالى منزَّه عن العبث .
ثالثاً: ثبت في النصوص القاطعة أن الله لا يكلِّف نفساً إلا وسعها ، ولا يكلِّف نفساً إلا ما آتاها ، ومن لا يملك حرية الإرادة في اختيار عمله لا يكون هذا الاختيار من وسعه ، ولا يكون هذا الاختيار مما آتاه الله ، فالله لا يكلِّفه لو كان كذلك .
ولما ورد التكليف علمنا أن هذا الاختيار من وسعه ومما آتاه الله إياه ، فسقط ادعاء الإجبار .
رابعاً: ليس من العدل ولا من الحكمة أن يؤاخذ الله مخلوقاً على عمل لم يكن هذا العمل مظهراً من مظاهر اختيار المخلوق وإرادته ، ولذلك نلاحظ في النصوص الدينية أن المؤاخذة والجزاء مقرونان بالأعمال الإرادية ، ومتى سلبت الإرادة عن عمل من الأعمال ارتفع التكليف ، وارتفعت المسؤولية .
وقواطع النصوص تبين هذه الحقائق .
منها قول الله تعالى في سورة (البقرة/2 مصحف/87 نزول):
{لاَّ يُؤَاخِذُكُمُ ٱللَّهُ بِٱلَّلغْوِ فِيۤ أَيْمَانِكُمْ وَلَـٰكِن يُؤَاخِذُكُم بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ وَٱللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ}
أي: يؤاخذكم بما حلفتم من أيمان ناتجة عن كسب قلوبكم ، وكسب القلوب هو توجه الإرادة ، فارتفعت المؤاخذة عما كان من لغو الألسنة ولم يكن من كسب القلوب .
ومنها قول الله تعالى في سورة (الأحزاب/33 مصحف/90 نزول):
{وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَآ أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَـٰكِن مَّا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ وَكَانَ ٱللَّهُ غَفُوراً رَّحِيماً}
ومن هذا يظهر لنا ارتفاع المؤاخذة عن الأخطاء التي تخرج عن دائرة سلطة الإرادة ، مما لا يملك الإنسان دفعه ، وأن المسؤولية رهن بما تعمدت القلوب من أعمال ، وما تعمدته القلوب هو ما توجهت الإرادة لفعله .
فإذا أضفنا إلى هذا قول الله تعالى في سورة (البقرة/2 مصحف/87 نزول):
{لاَ يُكَلِّفُ ٱللَّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا..}.
وقول الله تعالى في سورة (الطلاق/65 مصحف/99 نزول):
{لاَ يُكَلِّفُ ٱللَّهُ نَفْساً إِلاَّ مَآ آتَاهَا}.
وقوله الذي تكرر في (الأنعام والأعراف والمؤمنون):
{لاَ نُكَلِّفُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا}.
تبين لنا أن ورود التكليف يستلزم وجود الاستطاعة حتماً ، وأول عناصر الاستطاعة وجود الإرادة الحرة ، وتبين لنا أن المؤاخذة ترتفع متى سلبت الإرادة ، لأن التكليف يرتفع حكماً عند سلبها ، فلا يمكن أن يوجد في الواقع تناقض بين مقتضيات المشيئة الإلهية ، وبين مقتضيات أمر التكليف الإلهي .
والرأي الجبري الفاسد يدَّعي سلب الإرادة مع أن التكليف متوجه ، وأن المؤاخذة بعد ذلك متوجه ، وهذا معارض للنصوص القرآنية ، ومعارض لمنطق العقل وبديهته ، وهذا الرأي الجبري هو ما استغله سيادة الناقد لنقض قضية الدين ، مع أنه ليس هو الإسلام ، ولا فهم جمهور المسلمين ، وإنما هو رأي مرفوض تماماً.
فكل نقاش بناه "الناقد" على هذا الرأي المرفوض نقاش ساقط لا قيمة له .
وكل الأقوال التي استشهد بها من أقوال الجبريين أقوال ساقطة مرفوضة ، لا تمثل الحقيقة الإسلامية في هذا الموضوع ، فلا حاجة إلى استعراضها وبيان فساد مضامينها ، لأنها مبينة على فاسد ، وكل ما بني على فاسد فهو فاسد .
ويسأل الجبريون فيقولون : هل يفعل العاصي إذن معصيته معانداً لإرادة الخالق أم موافقاً لها؟
ونقول في الجواب: إن تصوير السؤال على هذا الوجه فيه مغالطة ، فالقضية لا تقع فقط بين احتمالين اثنين ، ولكنها تقع بين احتمالات ثلاثة وهي:
الاحتمال الأول: توجيه المشيئة الإلهية لإجبار المخلوق على الطاعة.
الاحتمال الثاني: توجيه المشيئة الإلهية لإجبار المخلوق على المعصية .
الاحتمال الثالث: توجيه المشيئة الإلهية لجعل المخلوق ذا إرادة حرة غير مجبرة .
وقد توجهت المشيئة الإلهية فعلاً إلى اختيار الاحتمال الثالث بالنسبة إلى الناس والجن ، فاستحال أن تتوجه إلى أضدادها .
وحينما يختار المخلوق أمراً مما جعل الله له فيه سلطة الاختيار فإن اختياره لذلك الأمر لا يعتبر بحال من الأحوال معانداً لإرادة الله في كل شيء ، لأن الله تعالى هو الذي أراد أن يمنحه سلطة الاختيار ليمتحنه ، كما أنه لا يقتضي أن يكون الله جلَّ وعلا هو الذي أجبره على أن يختار هذا الاختيار ، ولا يقتضي أيضاً أن يكون الله جلَّ وعلا راضياً عن كل ما يختاره المخلوق ذو الإرادة الحرة .
ويظهر لنا هذا الموضوع تماماً في تجاربنا الإنسانية ، فإن من نمنحه حرية التصرف في عمل ما ، قد يفعل ما يسرنا ويرضينا ، وقد يفعل ما يسوؤنا ويغضبنا ، مع إمكاننا أن نعزله عن ذلك العمل ، ونسلبه حرية التصرف فيه ، ولا يكون عمله معانداً لإرادتنا ، بل قد نمد له ، ونبقي له طاقة العمل وساحة التنفيذ بين يديه ، لنمتحنه ونختبره ، وقد نوبخه ونؤدبه ، وقد ننذره ونحذره ، حتى يحين وقت مؤاخذته ، ونحن في كل ذلك نشاهد سوء تصرفه ، وقد نرى من الحكمة أن لا نعارضه ، وأن لا نضع العراقيل في طريقه ، أو نكفه عن العمل الذي منحناه فيه حرية التصرف ، وقد نرى من الحكمة أن نملي له ، ليصلح من تصرفه ويقوِّم من سلوكه ، حتى يجتاز الامتحان بنجاح ، وعملنا هذا لا شيء فيه من التناقض ، بل هو من مقتضيات الحكمة التي تقتضيها ظروف الامتحان الأمثل .
بعد أن صنع (د. العظم) التزييف الذي أراده ، واستند إلى المفاهيم الجبري والباطنية الباطلة الفاسدة ، ووضع المقدمات التي أقامها على الكذب والمغالطة ، انتهى إلى شتيمة الخالق جلَّ وعلا ، ووصفه بالمكر والمخادع والاستهزاء ، وفق الصور والمفاهيم القبيحة التي لا تليق بالمخلوق فضلاً عن الخالق ، وتلاعب بمفاهيم النصوص الواردة في هذا المجال وفق خطته التي عرفناها في كل جدلياته ومغالطاته .
وفي الرد عليه أكتفي هنا بعرض المفاهيم الإسلامية الصحيحة ليظهر منها فساد كل ما انتهى إليه ، وفساد كل ما استند إليه .
لقد استشهد بطائفة من النصوص القرآنية وفسرها على ما يهوى ، تفسيراً مخالفاً لدلالتها الحقيقية .
فمن النصوص التي استشهد بها قول الله تعالى في سورة (آل عمران/3 مصحف/89 نزول):
{وَمَكَرُواْ وَمَكَرَ ٱللَّهُ وَٱللَّهُ خَيْرُ ٱلْمَاكِرِينَ}
وقول الله تعالى في سورة (الأنفال/8 مصحف/88 نزول):
{وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ ٱللَّهُ وَٱللَّهُ خَيْرُ ٱلْمَاكِرِينَ}
وقول الله تعالى في سورة (يونس/10 مصحف/51 نزول):
{وَإِذَآ أَذَقْنَا ٱلنَّاسَ رَحْمَةً مِّن بَعْدِ ضَرَّآءَ مَسَّتْهُمْ إِذَا لَهُمْ مَّكْرٌ فِيۤ آيَاتِنَا قُلِ ٱللَّهُ أَسْرَعُ مَكْراً إِنَّ رُسُلَنَا يَكْتُبُونَ مَا تَمْكُرُونَ}
أورد هذه النصوص واستغلها لينسب إلى الله تعالى صفة ذميمة قبيحة يريد أن يفهمها هو من لفظة المكر .
وإذا أردنا أن نحقق تحقيقاً لغوياً في أصل معنى المكر ، وجدنا أن معناه هو تدبير أمر في خفاء عمن دبر له أو عليه ، وهذا التدبير هو بحد ذاته ليس فيه ما يذم ، وإنما هو لون من الحكمة الداعية إلى كتمان الأمور وإخفائها ، ولكن قد يكتسب المكر الذم من غايته ، فإذا كانت الغاية منه شراً كان مكراً مذموماً ، وإذا كانت الغاية منه خيراً كان مكراً محموداً ، وهو يدل على الحكمة في التصرف .
فهو على المعنى وسيلة من الوسائل التي تستعمل في الخير فتكون خيراً ، وتستعمل في الشر فتكون شراً ، كسائر الوسائل التي لا شر فيها لذاتها ، وإنما تكتسب الشر حينما تستعمل في الشر ، وتكتسب الخير حينما تستعمل في الخير .
فالمكر قد يكون مكراً محموداً إذا كان الأمر الذي دبر فيه مؤدياً إلى نتيجة محمودة ، وقد يكون مكراً مذموماً إذا كان الأمر المدبر فيه مؤدياً إلى نتيجة مذمومة ، وتدبير الأمر في الخفاء لا يوصف لذاته بحسن أو قبح ، بل ربما كان أصله أقرب إلى المدح منه إلى الذم ، لأنه من الكتمان الحكيم .
ونستطيع أن نصور المكر المحمود الذي يستعمل في الخير بأمثلة كثيرة .
حينما تدبر أجهزة مطاردة المجرمين أمورها في خفاء وكتمان وسرية تامة ، لتظفر بالقبض على المجرمين الذين يتوارون في جرائمهم عن أعين السلطة الحاكمة العادلة ، ويدبرون مكايدهم الشريرة في الظلمات ، ثم تقبض عليهم من حيث لا يشعرون ، وتمكر بهم حتى تأخذهم وهم متلبسون بالجريمة ، أفيكون مكر هذه الأجهزة مكراً في الخير أم مكراً في الشر؟
وحينما يرى الأب أن أحد أولاده جنح عن طريق الهداية ، وسلك مسالك الشر والفساد ، مسالك هلاكه وشقائه ، ولم تُجْدِ فيه النصائح والمواعظ ووسائل التربية الظاهرة ، أفلا يرى من الخير الإصلاح ولده أن يدبر له وسيلة تربوية خفية يتَّعظ فيها بنفسه ، حتى يستقيم ويرتدع؟
إن الأب في ذلك يمكر بولده مكراً محموداً ، وهو بذلك يفعل خيراً.
وباستطاعتنا أن نصور المكر المحمود والمكر المذموم في قصة نتخيلها .
إنسان عنده قصر عظيم ، طمع به اللصوص ، فدبروا أمراً في الخفاء أن يأتوا بليل ، ويحتفروا أحد جدران القصر ويدخلوا إليه ، ويسطوا على ما فيه من مال ومتاع ، ويقتلوا من فيه .
وعلم صاحب القصر بما دبروا ، وعرف الجدار الذي عزما على نقبه ، فدبر خطة في الجدار يهلكون فيها بأيديهم دون أن يقاتلهم أحد من رجال القصر .
ولما حان الوقت المقرر فيما بينهم جاءوا متسللين ظانين أن أحداً لا شيعر بهم ، ولكن صاحب القصر وأعوانه يراقبون كل حركة من حركاته ، وهم في مكان يرون فيه اللصوص من حيث لا يرونهم ، وأخذ اللصوص ينقبون الجدار حسب الخطة المدبرة ، ولما زعموا أنهم كادوا يظفرون بما يريدون انقضَّ عليهم الجدار فهلكوا تحت أنقاضه .
لقد مكروا بزعمهم ومكرهم شر ، ولكن المكر في الحقيقة لصاحب القصر ومكره خير ، لأن غرضه من مكره أن يمنعهم من فعل الشر ، وأن يجازيهم عليه بأيديهم ويريح الناس من شرورهم .
وكذلك مكر الله ، وهو خير الماكرين ، لأنه لا يمكر إلا بخير ، وسبحان الله وتعالى عما يصفون .
هذا ما يتعلق بصفة المكر ، أما صفة الاستهزاء ، فقد استشهد الناقد (د. العظم) لها بقول الله تعالى في سورة (البقرة/2 مصحف/87 نزول):
{ٱللَّهُ يَسْتَهْزِىءُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ}
واقتطع هذا النص اقتطاعاً عن سياقه ، وطوى الكلام الذي قبله ليضلل به ، بعد أن يشوه المعنى المراد ، ولو كان باحثا ًمنصفاً يريد أن يفهم المراد من النص حقاً لم اقتطع الكلام بعضه عن بعض ، ولظل محتفظاً بالأمانة العلمية والنزاهة ، لأنه يعلم أن مثل هذا الاقتطاع خيانة علمية تؤدي إلى التشويه وإفساد المعاني ، حتى ولو كان هذا الباحث غير مؤمن بالكلام ولا بقائله ، فأخلاق البحث العلمي لا تسمح بالتلاعب بالنصوص ، لا بتغييرها ، ولا بتحريف ألفاظها ، ولا باقتطاع المترابطات وتجزئتها ، ولا بتحريف معانيها وتشويهها ، وتحويلها عن دلالاتها الأصلية المقصودة ، ولا بأي شيء آخر مفسد لها .
فإذا قرأنا سوابق هذا النص الذي استشهد به (د. العظم) تغير المعنى القبيح الذي أراد أن يصوره ، وحل محله معنى جميل دل عليه النص في واقع الأمر .
لقد تحدث الله عن المنافقين وعرض طائفة من صفاتهم وأفاض في بيان هذه الصفات ، حتى أبان من صفاتهم صفة الاستهزاء بالذين آمنوا ، فقال تعالى :
{وَإِذَا لَقُواْ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ قَالُوۤا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْاْ إِلَىٰ شَيَاطِينِهِمْ قَالُوۤاْ إِنَّا مَعَكْمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ}
فالمنافقون هم الذين يعاملون الحق بالاستهزاء ، فيتظاهرون بأنهم مع المؤمنين وهم بالحق وبالمؤمنين يستهزئون ، لأن قلوبهم مع الكافرين .
وبما أن أعدل الجزاء وأوفاه هو ما كان من جنس العمل كانت الحكمة تقضي بإعلان أنهم معاقبون بالاستهزاء ، جزاء استهزائهم ، فقال تعالى :
{ٱللَّهُ يَسْتَهْزِىءُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ}
أي: يجازيهم جزاء استهزائهم فيعاقبهم عقاباً من جنس عملهم ، وهذا غاية في العدل .
وهنا لا بد أن يلاحظ القارئ كيف شوّه سيادة الناقد ما هو غاية في العدل في ميادين الجزاء ، فجعل الاستهزاء صفة من صفات الله تعالى في معاملة عباده ، واقتطع النص عن سوابقه ولواحقه ليموِّه على قارئ كلامه ، فيتشكك بالحقائق الدينية .
ونظير ذلك استشهاده بقول الله تعالى في سورة (النساء/4 مصحف/92 نزول):
{إِنَّ ٱلْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ ٱللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ...}.
ففي هذا النص يبين الله تعالى أن عقاب هؤلاء المخادعين هو من جنس عملهم ، وفيه معنى آخر صرَّحت به الآية التي في أوائل سورة (البقرة/2 مصحف/87 نزول):
{يُخَادِعُونَ ٱللَّهَ وَٱلَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُم وَمَا يَشْعُرُونَ}
وهذا المعنى يتلخص بالحقيقة التالية : إن من يخدع من لا يُخدع إنما يخدع نفسه ، فالمنافقون يتصورون بنفاقهم أنهم يخادعون الله ، لكن الله تبارك وتعالى لا تنطلي عليه حيلهم ، ولا تجوز عليه مخادعتهم ، إنه يعلمهم تماماً ظاهراً وباطناً ، ولكن بحكمته يمهلهم ويملي لهم ، فيظنون أن خديعتهم قد نفذت ، وأن حيلتهم قد انطلت ، فيتابعون مسيرتهم الآثمة في الخداع ، ثم يأخذهم الله بعقابه ، يجازيهم بعدله ، وعندئذٍ يتبين لهم أنهم لم يخدعوا الله ، ولكنهم كانوا يخدعون أنفسهم ، فأسلوب الله في معاملتهم جعل خديعتهم تنقلب عليهم ، وفي هذا غاية العدل في الجزاء ، وهو أن يكون عقاب الإنسان بيد نفسه ، وأن يكون السلاح الذي قذفه على غيره ظالماً له ارتد عليه فأصابه بمثل القوة التي قذفه بها .
واستشهد الناقد بقول الله تعالى في سورة (الإسراء/17 مصحف/50 نزول):
{وَإِذَآ أَرَدْنَآ أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُواْ فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا ٱلْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيراً}
وقال في شرح هذا النص في الصفحة (122) من كتابه:
"كان قد شاء تدمير القرية ، ولكن لئلا يكون للعباد عليه حجة فيما شاء لجأ إلى المكر ، فأمر مترفيها أن يفسقوا حتى يبدو للجميع وكأن القرية استحقت ذلك التدمير . بينما الحقيقة غير ذلك"...
هكذا حوَّر النص تحويراً شائناً , وحرَّف معناه تحريفاً مناقضاً تماماً لأصل معناه ، وبيان ذلك فيما يلي:
أولاً: إن الله تعالى لا يأمر المترفين بأن يفسقوا ، ولكنه يأمرهم بأن يؤمنوا ويعملوا صالحاً ، فيفسقون ويخالفون أمر الطاعة ، فمن صفات أمر الله ونهيه أنه يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى ، وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي .
فمن أين أدخل "الناقد" المحرِّف أن الله يأمر المترفين أن يفسقوا والله قال: {أمرنا مترفيها} ثم قال : {ففسقوا فيها} ، ومعلوم بداهةً مثل هذا الكلام يفيد أنهم عصوا الأمر ففسقوا ، لذلك استحقوا العقاب على عصيانهم .
وإذا أردنا أن نقدر في النص محذوفاً فأي قارئ عربي يستطيع بداهةً أن يعرف أن المأمور به المحذوف هو ما أمر الله به في شرائعه من الإيمان وعمل الصالحات .
وليس ما حرَّفه سيادة "الناقد" من تقدير (أن يفسقوا) بدل (أن يؤمنوا ويعملوا الصالحات).
ثم إن ترتيب الجزاء إنما يكون على عصيان الأمر كما هو معلوم بالبديهة ، لا على طاعة الأمر .
فلا يستهن بالقارئ العربي هذه الاستهانة ، وليعلم أن ما يتلاعب به مكشوف للجميع!
ثانياً: جاءت هذه الآية تعقيباً على قوله تعالى:
{...وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّىٰ نَبْعَثَ رَسُولاً}.
أي: لا يهلك الله القرى الظالمة التي استحقت الإهلاك بجرائهما حتى يبعث الله إليها رسولاً ، فيأمرهم هذا الرسول بالطاعة ، فيعصي مترفوهم والملأ منهم .ويتبعهم حكماً وتقليداً من دونهم ، فيحق عليهم قانون الجزاء ، فيهلكهم الله تبارك وتعالى جزاء وفاقاً .
وهكذا ظهر لنا بوضوح تلاعب "سيادة الناقد" بمعاني النصوص الدينية ، وبالحقائق كلها ، ليؤيد مذهبه ، ويدعم قضية الإلحاد والكفر بالله ، محارباً قضية الإيمان والاستقامة على الخير والفضيلة .
وأترك القارئ الحصيف الواعي أن يحكم له أو عليه ، فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر ، فعند الله جزاء لمن آمن وجزاء لمن كفر .