مصوّر عام لمنهج التعاليم الإسلامية وما طرأ عليه

مصوّر عام لمنهج التعاليم الإسلامية وما طرأ عليه

من كتاب :

  صِرَاعُ مَعَ المَلاحِدَة حتى العظم

  تأليف

  عبد الرحمن حسن حبنّكة الميداني

       نظرة عميقة إلى الشوائب التي دخلت أو أدخلت على التعاليم الإسلامية تكشف لنا أن المكان الطبيعي لهذه الشوائب يقع في أحد منحدرين كائنين من دون اليمين أو من دون اليسار ، بالنسبة إلى المنهج الإسلامي الوسط ، الممتد في القمة الرشيدة السعيدة ، والذاهب ارتقاء إلى أعلى ذروات الحضارة المجيدة في دار الابتلاء ، دار العمل والبناء ، ثم إلى فردوس الخلود السعيد الأكمل في دار الجزاء .

        وإنما يحظى بخيرات هذا المنهج القويم السامي السالكون فيه ، المتقيدون بحدوده ، أفراداً وجماعات ، وشعوباً ودولاً ، والكل مسؤولون عن سلوك هذا المنهج والتزامه ، وعن بناء الصرح الإسلامي الديني والدنيوي معاً .

 

       وهذا المنهج متى انكسرت حدوده أمسى عرضة للاتساع مما وراءه من مزالق ومتاهات ، وعرضة لانزلاق سالكيه والخروج عن جادته ، وعرضة لدخول الشوائب فيه .

        أما الشوائب الدخيلة على التعاليم الإسلامية ، فالحديث عنها يستدعي إلقاء نظرات عميقة إلى مصادرها ومنابع قدومها ، ونظرات عميقة أخرى إلى السبل والوسائل التي تسربت بسببها فاختلطت في مفاهيم المسلمين ، ضمن حشد التعاليم الأصلية ، أو زاحمت بعضها ثم احتلت مكانه .

        ويستدعي منا أيضاً أن نلقي نظرات على واقع الصور العامة للتعاليم التي خالطتها الشوائب ، أو زاحمت ما زاحمت منها ، ثم احتلت مكانه في مختلف البيئات لشعوب المسلمين.

 

       أما النظرات إلى واقع الصور العامة القاتمة القائمة في مفاهيم كثير من المسلمين ، فيمكن تمثيلها بإحدى الصور التالية المصابة بالخلل أو الفساد أو التزوير ، وهي خمس صور:

        * الصورة الأولى:

       وهي الصورة المختلطة المهزوزة في مفاهيم بعض الناس لحقيقة التعاليم الإسلامية ، وتكون هذه الصورة باختلاط الحقائق ، وعدم إدراك كل منها في مكانه الصحيح .

        والشوائب في هذه الصورة ناتجة عن تداخل عناصر الصورة ، وتمازج بعضها في بعض ، وعدم تمايز حدود كل منها .

        ومن أمثلة هذه الصورة في الواقع ما نشاهده عند كثير من المنتسبين إلى الإسلام من المفاهيم المختلطة الغامضة عن التعاليم الإسلامية ، كالذين يرون أن أي عطاء مالي يعتبر زكاة كافية للمال ، ويكتفون بذلك فلا تحاسبون أنفسهم على كل نصيب زكوي يجب عليهم شرعاً أن يؤدوه ، وكالذين يرون أن الديانات السماوية السابقة للإسلام لا تزال بعد بعثة محمد صلوات الله عليه مقبولة عند الله ، ومنجية من عواقب الشرك والكفر بالله ، رغم كل التحريفات الواقعة فيها عن الأصل الصحيح الذي أنزله الله على رسله عليهم الصلاة والسلام ، ولولا التحريف لرأى هؤلاء في ديانتهم ما يوجب عليهم اتباع محمد والإيمان به ، إلى غير ذلك من أمثلة كثيرة .

        وسبب وجود هذه الصورة المهزوزة المختلطة الجهل بالتعاليم الإسلامية الصحيحة ، وقلة أجهزة التثقيف الإسلامي العام في مختلف بلاد المسلمين .

        وإصلاح هذه الصورة يكون بتنفيذ خطة محكمة للتبصير الحقيقي بالإسلام الصحيح الصافي ، ونشر الوعي العام لتعاليمه التي تشمل كل جوانب الحياة الإنسانية أفراداً وأسراً وجماعات وحكومات . ويمكن تلخيص هذه الخطة بما يلي:

1- وضع ميثاق إسلامي عام يمكن أن يلتقي عليه معظم المسلمين ، ومن طبيعة هذا الميثاق أن يكون بعيداً عن النقاط الخلافية .

2- وضع منهاج للتثقيف الإسلامي العام .

3- إعداد المصنفات الإسلامية الحديثة الملائمة للغة العصر ولأسلوبه الكلامي ، أو انتقاء المناسب منها ، وينبغي أن تكون هذه الصفات بعيدة عن إثارة الخلافات المذهبية العنيفة ، وأن تكو إيجابية ذات مستويات تتناسب مع مستويات جماهير المسلمين ، على أن يتم نشرها بينهم بنسبة كافية ، وبلغاتهم القومية .

4- العمل على إعداد جيش المثقفين ثقافة إسلامية حسنة ، مقرونة بوعي والتزام واتزان ، وينبغي أن تكون دوائر التثقيف الإسلامي في حالة اتساع مستمر .

5- توجيه هذا الجيش المتزايد إلى التوعية الإسلامية العامة ، بمستويات تتناسب مع حال الجماهير المختلفة .

        * الصورة الثانية:

       وهي الصورة التي دخل فيها أخطاء لدى رسم المفاهيم الإسلامية الصحيحة ، وطبيعي أن تكون هذه الأخطاء غير مطابقة للحقيقة الإسلامية .

        ومن الأمثلة لهذه الصورة ما نلاحظه من مفاهيم غير صحيحة منسوبة إلى الإسلام ، وقد يسهل الأمر حينما يقال : هذا هو رأي فلان الذي فهمه عن الأمر الفلاني من الإسلام ، ولكن الخطر حينما يقال : هذا هو الحكم الإسلامي قطعاً ، وكل رأي مخالف له من الآراء والاجتهادات التي لها وجه من النظر ضلال وكفر .

        وأسباب الأخطاء في رسم هذه الصورة كثيرة جداً ، ويمكن الإشارة إلى أهم أصولها العامة:

       الأصل الأول : الخطأ في الاجتهاد ، وللخطأ في الاجتهاد أسباب كثيرة يعرفها علماء أصول الفقه الإسلامي .

       الأصل الثاني : الخطأ في تقويم ما توصل إليه الاجتهاد ، وذلك باعتباره هو الحق لا غير ، رغم أن اليقين القاطع لم يتوافر فيه .

       الأصل الثالث : التعصب للرأي أو للمذهب ضد الآراء أو المذاهب الأخرى .

       أما الخطأ في الاجتهاد فيعذر فيه المجتهد الكفء بشرط تقيده بالأصول الاجتهادية العامة ، التي قامت عليها دلائل الشرع والعقل .

        ولكنه ليس للمجتهد الذي توصل إلى مفهوم إسلامي قائم على ما ترجح لديه من ظن غالب أن يعطي ما توصل إليه اجتهاده أكثر من القيمة التي يستحقها ، فيفرض على الإسلام رأيه ، ويحارب كل رأي مخالف ، وكذلك ليس لأنصار هذا المجتهد أن يفعلوا مثل هذا الفعل لاحتمال أن يكون الصواب في جانب رأي المخالف ، أو في جانب رأي آخر .

        فإذا تعصب المجتهد لرأيه وفرضه على الإسلام فقد يؤدي به الحال إلى أن يلصق بالإسلام ما لا يقول به الإسلام نفسه ، فيضيف إلى الصورة الإسلامية خطأ من عنده .

        ثم لا يصح للذين أخذوا برأي هذا المجتهد أن يتعصبوا له تعصباً أعمى ، لأنهم بعملهم هذا يجسمون ويعظمون بقع الخطأ التي رسمها الاجتهاد الخاطئ في الصورة الإسلامية .

        ومن أسباب الخطأ في الاجتهاد عدم التبصر الصحيح الشامل بمختلف المصادر التي تثبت بها المعارف الإنسانية ، لمعرفة وجه الصواب ، أو لتخفيف نسبة احتمالات الخطأ.

        وليس عسيراً على علماء المسلمين أن يصلحوا هذه الصورة التي دخلت فيها الأخطاء ، إذا اجتمعوا في مؤتمرات عامة ، وعالجوا المشكلات بتجرد صحيح ، ونشدان للحقيقة حيث كانت .

        ويلحق بهذه الصورة التي دخلت فيها أخطاء لدى رسم المفاهيم الإسلامية الصحيحة المقومة لكل ما في الحياة رغم تطور أساليبها وصورها الحضارية ، ما نلاحظه عند طائفة من متأخري طلاب المعرفة الإسلاميين من الإغراق في الاشتغال بالجدليات الكلامية والمماحكات اللفظية ، وصرف معظم جهد البحث العلمي في حدود الألفاظ والحروف ، والبعد عن تصيد جواهر التعاليم الإسلامية النافعة ، وإخراجها منتظمة في عقود فكرية متكاملة متناسقة ، تعالج مشكلات الحياة ، وتواكب أطوارها الحضارية المتقدمة بإصلاح وتقويم ، أو دفع وتدعيم .

        ولكن النهضة العلمية الإسلامية الحديثة في طائفة من عواصم بلاد المسلمين قد عدّلت من هذا تعديلاً كثيراً .

        * الصورة الثالثة :

        الصورة المشوهة من قبل أعداء الإسلام ، وهي الصورة التي قبَّح جمالها وإشراقها الماكرون المفسدون بما لطخوا وجهها الصبيح من شبهات ، وبما ألصقوا فيها من تهم كاذبة .

        وصانعو هذه التشويهات رسامون كثيرون من أعداء الإسلام ، أجهدوا أنفسهم في تصيد الشبهات والتشويهات والأكاذيب والتضليلات ، لإلصاقها بالتعاليم الإسلامية ، وإفساد عقول أبناء المسلمين ، ثم أجهدوا أنفسهم فأضافوا إليها أصنافاً مختلفة من الزينات والأصباغ والدهانات الخادعة للنظر .

        وحاولوا بهذا التشويه الحقير أن يشككوا المسلمين بدينهم وبتعاليمهم الربانية ، واستطاعوا بعد جهد جهيد وزمن مديد أن يتلاعبوا بعقول البعيدين عن التعاليم الإسلامية وتدبُّر غاياتها والحِكَم التي تتضمنها ، والمفتونين ببريق الحضارة المادية الأوروبية الحديثة ، لا سيما الذين أنشأتهم المدارس الأجنبية إنشاءً مباشراً ، ثم الذين أنشأتهم مخططاتها ومناهجها بشكل غير مباشر .

        ومن اليسير على الدعاة المسلمين ذوي البصر النافذ ، والعمل المخلص ، إزالة هذه الأدران المشوهة للتعاليم الإسلامية ، وذلك بالقيام بحملة توعية إسلامية تعتمد على إبراز فضائل هذه التعاليم ، وبيان الحكم العظيمة التي تتضمنها ، بالاستناد إلى البحوث الفكرية المنصفة الرصينة ، والتجارب الواقعية المشاهدة .

       وقد تصدى بحمد الله طائفة من كتاب الفكر الإسلامي من ذوي الغَيرة لدفع هذه الشبهات وبيان زيفها ، بكتابات كثيرة ، ودفاعات محكمة ، فأسهموا إسهاماً مباركاً طيباً في غسل الصورة التي أراد لها أعداء الإسلام أن تكون صورة مشوهة في نفوس كثير من أبناء المسلمين .

        وينبغي أيضاً أن تستهدف حملة التوعية هذه تبصير الأجيال الإسلامية بمرابض الخطر على مفاهيمها الإسلامية الصحيحة ، وأخلاقها الكريمة ، وذاتيتها الإسلامية ، ذات الكيان المتميز في العالم ، يضاف إليه فضح دسائس أعداء الإسلام الفكرية والعملية ، وإبراز الصورة الإسلامية المشرقة الحقة ، بكل وسيلة من وسائل الإعلام والتنوير العام .

        * الصورة الرابعة :

        وهي الصورة التي حصل فيها تغيير في النِّسب بين مفردات وأجزاء التعاليم الإسلامية ، إذ أخذها بعضها من المساحة الكلية في أفكار ونفوس طائفة من المسلمين أكثر من نصيبه المقدر له في أصل التشريع الإسلامي .

        فإذا أردنا أن نمثل هذه الصورة التي تغيرت فيها النِّسب الأصلية وجدناها تشبه ما لو جاء رسَّام (كاريكاتير) فرسم سيارة لركوب الناس ، فجعل لها دواليب ، قُطْرُ كل منها متران ، وجعل لها أبواباً صغيرة لا يستطيع أن يدخل منها الإنسان ، ومرتفعة عن الأرض بمقدار قامته ، ثم جعل لها من الداخل مقاعد ضيقة جداً ، بمقدار راحة اليد ، وطويلة جداً بمقدار طول العمالقة الخياليين ، وهكذا تلاعب بالنسب الصحيحة في الأجزاء ، ووضع محركاً بمقدار محرك دراجة نارية ، ثم كتب على سيارته هذه : (عدد الركاب ثمانون راكباً).

        ربما أكون قد بالغت في التمثيل لغرض التوضيح ، إلا أن الحقيقة التي عليها بعض المسلمين في فهمهم للتعاليم الإسلامية فيها تغيير كبير في نسبة كل جزء منها إلى المجموع الكلي .

        ومن الأمثلة ما يلي :

       ( أ ) يرى بعض الناس أن أهم ما في الدين هو حسن المعاملة مع الآخرين ، فيملأ معظم المساحة الدينية به ، ويفضي به هذا الفهم إلى ترك مراقبة الله في الأعمال والأقوال والأفكار والنيات ، وإلى ترك فروض العبادات أو إهمالها ، وإلى عدم الاكتراث بركن الجهاد في سبيل الله لنشر الدين ، ونصرة الحق ، وإقامة العدل ونحو ذلك من الأمور الجوهرية التي يقوم عليها الإسلام .

        ( ب ) ويرى بعض الناس أن أهم ما في الدين هو القيام بالعبادات الشخصية ، كالصلاة والصيام وكثرة الأوراد والأذكار ، فيملأ معظم المساحة الدينية بذلك ، ويهمل ما في الدين من واجبات وفروض أخرى ، أو يُصغِّر من حجمها ويعطيها أقل اهتمامه .

        ( ج ) ويرى بعض الناس أن أهم ما في الدين هو المحافظة على السيما الظاهرة للمسلم ، فيولي ذلك كل اهتمامه وعنايته ، ويهمل الأسس الجوهرية التي قام عليها الدين عقيدةً وعملاً ، أو يصغر من حجمها ويعطيها أقل اهتمامه .

        ( د ) ويرى بعض الناس أن مسؤوليات الدعوة إلى الله ، ونشر دين الله ، وإقامة الإسلام في الأرض ، من خصائص فئة معينة من المسلمين تفرغت للوعظ والإرشاد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، وأما سائر الناس فمسؤولون فقط عن أنفسهم ، فلا هم لهم إلا أمور دنياهم ، وتثمير أموالهم ، والتمتع بشهوات الحياة الدنيا ولذاتها ، والاستغراق في زخرفها ، كما يرون أن مسؤوليات الجهاد في سبيل الله من خصائص الجند فقط ، المنتظمين في سلك الجيش .

        مع أن الإسلام الصافي قد عقد تشابكاً عاماً بين الأفراد والجماعات والقيادات ، وحمَّل كلاً من المسؤولية الشخصية على مقدار ما وهبه الله من خصائص ، ومن المسؤولية العامة على قدر موقعه بالنسبة إلى الجماعة وذلك كمسؤولية كل عضو من أعضاء الجسد بالنسبة إلى سائر الأعضاء ، ومن البدهي أن مسؤولية الرأس تناسب موقعه من الجسد ، ومسؤولية إحدى أصابع اليدين أو الرجلين تناسب أيضاً موقعها من الجسد ، والكل يقدم واجبه نحو المسؤولية الجماعية على مقداره .

        وسبب التشويه في هذه الصورة فقدان الإدراك السليم الكامل الشامل للمفاهيم الإسلامية بوجه عام ، ومقادير كل منها ، وكيفية ترابطها وتناسقها في الصورة الإسلامية العامة .

        وفقدان هذا الإدراك الشامل يتولد عنه نتائج خطيرة ، منها النتائج التالية:

        أولاً: فساد النِّسب لأجزاء الصورة الإسلامية العظيمة .

        ثانياً: الخللُ في وحدة النظام الكلي للمفاهيم الإسلامية التي يكمِّل بعضها بعضاً .

        ثالثاً: تشتت شمل وحدة المسلمين ، نظراً إلى أن لكل فريق منهم صورة إسلامية خاصة به ، تتميز أجزاؤها بنسب مخالفة للنسب التي تتميز بها أجزاء الصور الأخرى ، الأمر الذي يؤدي إلى تعصب كل فريق للصورة التي يحملها ، وادعائه أنها هي الإسلام كل الإسلام .

        رابعاً: توجيه كل طاقات العمل دفعة واحدة لتحقيق ما احتل معظم الساحة في الصورة ذات النسب الفاسدة ، ويصعب الأمر جداً حينما يكون أهون جزيئات التعاليم الإسلامية الصحيحة وأيسرها هو الذي يحتل معظم مساحة الصورة .

        ومما يزيد في الألم أن تكون هذه الجزيئات التي تمتص معظم طاقات العمل داخلة في حدود الأشكال والرسوم ، لا في حدود الجواهر والمعاني والأرواح والقيم الحقيقية الذاتية .

        فبينما تنقض أسس الإسلام حجراً حجراً ، وتعمل على اجتثاثها اجتثاثاً كلياً جيوش كثيرة مستخفية ومستعلنة ، نجد كتائب كثيرة من المسلمين منشغلة في جدليات كلامية ، ومصارعات عملية ، حول أفضل الألوان التي ينبغي أن يُدهن بها الجدار الخارجي لبناء الصرح الإسلامي ، مع أن جيوش الهدم لا يُستطاع دفعها إلا باجتماع طاقات حماة هذا الصرح العظيم على اختلاف أعراقهم ومذاهبهم .

        * الصورة الخامسة :

        وهي الصورة المزورة للتعاليم الإسلامية تزويراً كلياً أو تزويراً جزئياً ، وأمثال هذه الصورة المزورة نجدها عند الفرق المنحرفة الضالة ، التي عمل على إنشاء جيوبها أعداءٌ للإسلام ، تظاهروا بالانتساب إليه نفاقاً ، ليعملوا على هدمه من الداخل ، وذلك بتكوين فرق وطوائف تنتسب إلى الإسلام انتساباً اسمياً ، وهي تحمل له كل حقد وكيد ، وتضع له صوراً مصنوعة من عند أنفسها ، مزورة على الإسلام وعلى أحكامه وشرائعه . ولليهود في هذا المكر أكبر نصيب .

        وبدهي أن كل صورة مزورة من هذا القبيل ليست من الإسلام في شيء ، وإن تسمّت باسمه .

       ومن اليسير على جماعة المسلمين أن يكتشفوا هذه الصور المزورة المزيفة ، متى قارنوها مقارنة عامة بما هو معلوم من الدين بالبداهة عند جميع المسلمين .

        ولكن الأمر الخطير جداً إنما هو إدخال التزويرات الجزئية على بعض المفاهيم والتعاليم الإسلامية الثابتة ، وهذا ما اتجهت إليه أجهزة المكر في هذا العصر ، وكانت لعبة قُصد بها تحويل المسلمين عن أسس التعاليم الإسلامية باسم الإسلام .

        فمن أمثلة ذلك الأسماء الحديثة التي انتشرت في عالمَي الاقتصاد والسياسة (كالاشتراكية والرأسمالية والدكتاتورية والديمقراطية).

        إن من المعلوم أن لهذه الأسماء مفاهيم ومدلولات خاصة عند الآخذين بها .

        والذي يُلاحظ أن تشابهاً جزئياً موجود فعلاً بين التعاليم الإسلامية وبين بعض ما تتضمنه هذه الأسماء من دلالات نظرية ، أو تطبيقات عملية .

        واستغلالاً لهذا التشابه الجزئي يأتي أعداء الإسلام فيستدرجون بعض المسلمين إلى منزلق الخطر الذي ينتهي في آخره إلى طمس نظام من نظم الإسلام ، وإحلال نظام آخر في مكانه ، تعلُلاً بوجود التشابه بينهما في ناحية من النواحي .

        مع أن مثل الإسلام كمثل المخلوق في أحسن تقويم بصفاته التامة التي لا يصح بحال من الأحوال فصلُ بعضها عن بعض ، ومثل الأنظمة الأخرى كمثل غير الإنسان من الأنعام أو الوحش ، وليس صعباً على أي ناظر أن يجد تشابهاً جزئياً بين الإنسان وبين هذه الكائنات الحية الأخرى .

        ولكن الجنوح الخطير فكرياً أو تطبيقياً أن يحتل ثعلب ماكر ، أو ثور مغامر ، أو ذئب غادر ، مكان الإنسان ، أو أن تحتل نظيراتها من الأنظمة الوضعية مكان نظام من أنظمة الإسلام ، أو مكان عدد منها .

        وقد حاول أنصار كل مذهب من هذه الوضعية أن يجد في الإسلام تأييداً لجانب من جوانبها ، ليلبِّس بذلك على المسلمين ، ويجعل الإسلام كأنه صاحب هذه المذاهب أو يوافق عليها .

        وفي دوَّامة المغالطات والتلبيسات نجد أن أنصار المذاهب الاشتراكية في البلاد الإسلامية يختبئون وراء الإسلام ، ليحميهم من هجمات أنصار المذاهب الرأسمالية ، ويدرأ عنهم الضربات القاصمة ، بحجة أن الإسلام يحتوي على مبادئ اشتراكية ، تحقق العدالة الاجتماعية بين الناس ، كما نجد أنصار المذاهب الرأسمالية في البلاد الإسلامية يقدمون الإسلام إلى الصف الأول في معركتهم مع أنصار المذاهب الاشتراكية ، بحجة أن الإسلام يعترف بالملكية الفردية ويحميها ، ويفسح مجال حرية العمل والكسب والتجارة ، ولا يسدُّ أبواب المنافسة الشريفة في تحصيل الثروات .

        وبين صراع الاشتراكيات والرأسماليات التي يزج كل منهما الإسلام في أتون معركته مع الآخر يتلقى الإسلام في بلاد المسلمين معظم الضربات ، مع أن الإسلام بريء من الفريقين المتصارعين ، وأي منهما انتصر فالإسلام خاسر .

        وإن صح وجود الإسلام في حلبة الصراع هذه فإما أن يكون فريقاً وحده ضد الفريقين معاً ، وإما أن يكون حكماً عدلاً ،يسجل على كل فريق منهما خطأه وصوابه ، ويعمل على أن يرد كل مخطئ منهما إلى وجه الصواب .

        وهنا نقول : إن الإسلام الاشتراكي وفق مفهوم الاشتراكيين صورة مزورة للإسلام ، وإن الإسلام الرأسمالي وفق مفهوم الرأسماليين صورة مزورة أيضاً للإسلام ، وإن الإسلام الدكتاتوري وفق مفهوم الدكتاتوريين صورة مزورة للإسلام ، وإن الإسلام الديمقراطي وفق مفهوم الديمقراطيين صورة مزورة أيضاً للإسلام .

        أما الإسلام فهو شيء آخر غيرهذا وغير ذلك ، وإن كان بين هذه النظم وبين التعاليم الإسلامية تشابه جزئي .

        هذه هي الصور الخمس المنسوبة إلى الإسلام ، وهي مشوبة بالشوائب الدخيلة المفسدة لها ، وقد يحدث أن تجتمع في بعض مفاهيم الناس مجموعة منها ، فيتكاثر الخطأ ، ويعظم الانحراف ، وتزداد المصيبة ، وتشتد الحاجة إلى الإصلاح والتقويم .

 

تاريخ الاضافة: 26-11-2009
طباعة