وقال :( فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر ) (الكهف/29) .
فالآية نص في أن من اختار الإيمان فباختياره ، ومن اختار الكفر فباختياره ، فلا إكراه ، ولكن مع هذا التخيير فالله سبحانه يحب الإيمان ويرضاه ويدعو إليه ، ويكره الكفر ويحذر منه ، ونصوص القرآن حافلة في هذا المعنى ، ولهذا عقَّب الله التخيير بقوله محذراً ومنفراً :( إنا أعتدنا للظالمين ناراً أحاط بهم سرادقها ) (الكهف/29) .
والكفر رأس الظلم ، فلا يتوهمن أحد أن حمل الآية على التخيير وعدم الإكراه يشعر بإباحة الكفر أو الرضا به، حاشا لله أن يكون هذا ، ولعل خوف هذا التوهم هو الذي حدا كثيراً من المفسرين على حمل الآية على التهديد والوعيد ، حتى مثَّل علماء البلاغة للأمر الذي يراد به التهديد بهذه الآية ، فالآية بنصها تخيير ، ولكنه تخيير يستلزم تهديداً ووعيداً لا محالة في حال اختيار الكفر على الإيمان ، وهي نصوص صريحة في عدم الإكراه على الإسلام .
وأما السنة فقد جاءت مؤيدة لما جاء به القرآن ، وإليك طرفاً منها : روى الإمام مسلم في صحيحه بسنده أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا أمَّر أميراً على جيش أو سرية أوصاه في خاصته بتقوى الله ومن معه من المسلمين خيراً ، ثم قال : [ اغزوا باسم الله في سبيل الله ، قاتلوا من كفر بالله ، اغزوا ولا تغُلُّوا ولا تغدروا ، ولا تمثلوا ، ولا تقتلوا وليداً ، وإذا لقيت عدوك من المشركين فادعهم إلى ثلاث خصال ، أو خلال ، فأيتهنَّ ما أجابوك فاقبل منهم وكف عنهم ، ثم ادعهم إلى الإسلام فإن أجابوك فاقبل منهم وكُفَّ عنهم . . . فإن هم أبَوا فسَلْهم الجزية ، فإن أجابوك فاقبل منهم وكُفَّ عنهم ، فإن هم أبَوا فاستعن بالله وقاتلهم ] ، وهكذا ترى أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يأمر بالقتال إلا بعد أن تستنفد الوسائل السلمية ، وليس بعد استنفادها إلا أنهم قوم مفسدون أو يريدون الحرب ، و في هذا السياق فإن الجزية ليست للإرغام على الإسلام ، وإنما هي نظير حمايتهم وتأمينهم وتقديم شتى الخدمات لهم ، وليس أدل على هذا مما رواه البلاذري في فتوح البلدان أنه لما جمع هرقل للمسلمين الجموع ، وبلغ المسلمين إقبالهم إليهم لواقعة اليرموك، ردوا على أهل حمص ما كانوا أخذوا منهم من الجزية وقالوا : ( قد شُغلنا عن نصرتكم والدفع عنكم فأنتم على أمركم ) فقال أهل حمص : ( لولايتكم وعدلكم أحب إلينا مما كنا فيه من الظلم والغشم ، ولندفعن جند هرقل ـ مع أنه على دينهم ـ عن المدينة مع عاملكم ) ، وكذلك فعل أهل المدن التي صولحت من النصارى واليهود .
وقالوا : إن ظهر الروم وأتباعهم على المسلمين صرنا إلى ما كنا عليه ، وإلا فإنا على أمرنا ما بقي للمسلمين عدد …
وقد يقول قائل فما تقول في الحديث الشريف : [ أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا : لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله ] ؟
قلنا : المراد بالحديث فئة خاصة ، وهم وثنيو العرب ، أما غيرهم من أهل الكتاب من اليهود والنصارى فهم على التخيير بين الأمور الثلاثة التي نص عليها حديث مسلم .
على أن بعض كبار الأئمة كمالك والأوزاعي ومن رأى رأيهما يرون أن حكم مشركي العرب كحكم غيرهم في التخيير بين الثلاثة : الإسلام ، أو الجزية ، أو القتال ، واستدلوا بحديث مسلم السابق .
وإذا نظرنا بعين الإنصاف إلى الذين حملوا حديث المقاتلة على وثنيي العرب ، لا نجده يجافي الحق والعدل ، فهؤلاء الوثنيون الذين بقوا على شركهم لم يدعوا وسيلة من وسائل الصد عن الإسلام إلا فعلوها ، ثم هم أعرف الناس بصدق الرسول ، فهو عربي من أنفسهم والقرآن عربي بلغتهم ، فالحق بالنسبة إليهم واضح ظاهر ، فلم يبق إلا أنهم متعنتون معوِّقون لركب الإيمان والعدل والحضارة عن التقدم .
هذا إلى أن الشرك مذهب فاسد ، والمذاهب الفاسدة تحارب ويحارب دعاتها بكل الوسائل ، من قتل أو نفي أو سجن ، وهذا أمر مقرر في القديم والحديث . وها هي دول الحضارة اليوم في سبيل سلامتها ، بل وفي سبيل إرضاء نزواتها وأهوائها تزهق الآلاف من الأرواح ، ويغمض الناظرون أعينهم عن هذا ولا يعترض المعترضون ، فهل هذا حلال لهم ، حرام على غيرهم ؟! .
فالإسلام حينما لم يقبل من مشركي العرب المحاربين إلا الإسلام بعد ما تبين لهم الحق ، وأصبحوا قلة تعتنق مذهباً فاسداً بجانب الكثرة الكاثرة من العرب التي أسلمت طواعية واختياراً لم يكن متجنياً ولا ظالماً ، فالحديث كيفما فهمناه لا ينهض دليلاً للمفترين على الإسلام .
سماحة و رحمة :
4- ويرد هذه الفرية ويقتلعها من أساسها ما التزمه الرسول صلى الله عليه وسلم في سيرته من التسامح مع أناس أُسروا وهم على شركهم ، فلم يلجئهم على الإسلام ، بل تركهم واختيارهم .
فقد ذكر الثقات من كُتَّاب السير والحديث أن المسلمين أسروا في سرية من السرايا سيد بني حنيفة ـ ثمامة بن أُثال الحنفي - وهم لا يعرفونه ، فأتوا به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فعرفه وأكرمه ، وأبقاه عنده ثلاثة أيام ، وكان في كل يوم يعرض عليه الإسلام عرضاً كريماً فيأبى ويقول : إن تسأل مالاً تُعطه ، وإن تقتل تقتل ذا دمٍ ، وإن تنعم تنعم على شاكر ، فما كان من النبي صلى الله عليه وسلم إلا أن أطلق سراحه .
ولقد استرقت قلب ثمامة هذه السماحة الفائقة ، وهذه المعاملة الكريمة ، فذهب واغتسل ، ثم عاد إلى النبي صلى الله عليه وسلم مسلماً مختاراً ، وقال له : [ يا محمد ، والله ما كان على الأرض من وجه أبغض إليَّ من وجهك ، فقد أصبح وجهك أحب الوجوه إلى . والله ما كان على الأرض من دين أبغض إلىَّ من دينك ، فقد أصبح دينك أحب الدين إليَّ . والله ما كان من بلد أبغض إلى من بلدك ، فقد أصبح أحب البلاد إلي َّ ] .
وقد سر رسول الله صلى الله عليه وسلم بإسلامه سروراً عظيماً ، فقد أسلم بإسلامه كثير من قومه ، ولم يقف أثر هذا التسامح في المعاملة عند إسلام ثمامة وقومه بل كانت له آثار بعيدة المدى في تاريخ الدعوة الإسلامية ، فقد ذهب مكة معتمراً ، فهمَّ أهلها أن يؤذوه ولكنهم ذكروا حاجتهم إلى حبوب اليمامة ، فآلى على نفسه أن لا يرسل لقريش شيئاً من الحبوب حتى يؤمنوا ، فجهدوا جهداً شديداً فلم يرَوا بُدّاً من الاستغاثة برسول الله صلى الله عليه وسلم .
ترى ماذا كان من أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم معهم ؟ أيدع ثمامة حتى يلجئهم بسبب منع الحبوب عنهم إلى الإيمان ؟ لا ، لقد عاملهم بما عرف عنه من التسامح ، وأن لا إكراه في الدين ، فكتب إلى ثمامة أن يخلِّي بينهم وبين حبوب اليمامة ، ففعل ، فما رأيكم أيها المفترون ؟ .
بل امتد أثر دخوله في الإسلام على أساس من الاختيار والرغبة الصادقة إلى ما بعد حياة النبي ، ذلك أنه لما ارتد بعض أهل اليمامة ، ثبت ثمامة ومن اتبعه من قومه على الإسلام ، وصار يحذر المرتدين من أتباع مسيلمة الكذاب ، ويقول لهم : ( إياكم وأمراً مظلماً لا نور فيه ، وإنه لشقاء كتبه الله عز وجل على من أخذ به منكم ، وبلاء على من لم يأخذ به منكم ) ، ولما لم يجد النصح معهم خرج هو ومن معه من المسلمين وانضموا للعلاء بن الحضرمي مدداً له ، فكان هذا مما فتَّ في عضد المرتدين ، وألحق بهم الهزيمة .
عفو وحلم :
و إليك قصة أخرى : لما فتح النبي صلى الله عليه وسلم مكة ودخلها ظافراً منتصراً كان صفوان بن أمية ممن أهدرت دماؤهم ؛ لشدة عداوتهم للإسلام ، والتأليب على المسلمين ، فاختفى وأراد أن يذهب ليلقي بنفسه في البحر ، فجاء ابن عمه عمير بن وهب الجمحي وقال : يا نبي الله ، إن صفوان سيد قومه ، وقد هرب ليقذف نفسه في البحر فأمِّنه ، فأعطاه عمامته ، فأخذها عمير حتى إذا لقي صفوان قال له : ( فداك أبي وأمي . جئتك من عند أفضل الناس وأبر الناس ، وأحلم الناس ، وخير الناس ، وهو ابن عمك ، وعزه عزك ، وشرفه شرفك ، وملكه ملكك ) فقال صفوان : إني أخافه على نفسي .
قال عمير : هو أحلم من ذلك وأكرم ، وأراه علامة الأمان و هي العمامة ؛ فقبل برده ، فرجع إلى رسول الله فقال : إن هذا يزعم أنك أمنتني ، فقال النبي : " صدق " . فقال صفوان : أمهلني بالخيار شهرين ، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( بل أربعة أشهر ) ، ثم أسلم بعد وحسن إسلامه.
فهل بعد هذه الحجج الدامغة يتقوَّل متقوِّل على الإسلام زاعماً أنه قام على السيف والإكراه ؟ ! .
5 - ثم ما رأي المبشرين والمستشرقين في أن من أكره على شيء لا يلبث أن يتحلل منه إذا وجد الفرصة سانحة له ؟ بل ويصبح حرباً على هذا الذي أكره عليه ؟ ولكن التاريخ الصادق يكذب هذا ، فنحن نعلم أن العرب ـ إلا شرذمة تسور الشيطان عليها ـ ثبتوا على ما تركهم عليه الرسول ، وحملوا الرسالة ، وبلَّغوا الأمانة كأحسن ما يكون البلاغ إلى الناس كافة ، ولم يزالوا يكافحون ويجاهدون في سبيل تأمين الدعوة وإزالة العوائق من طريقها حتى بلغت ما بلغ الليل والنهار في أقل من قرن من الزمان ، ومن يطَّلع على ما صنعه العرب في حروبهم وفتوحاتهم لا يسعه إلا أن يجزم بأن هؤلاء الذين باعوا أنفسهم رخيصة لله ، لا يمكن أن يكون قد تطرق الإكراه إلى قلوبهم ، وفي صحائف البطولة التي خطوها أقوى برهان على إخلاصهم وصدق إيمانهم ، وسل سهول الشام وسهول العراق ، وسل اليرموك والقادسية ، وسل شمال إفريقيا تخبرك ما صنع هؤلاء الأبطال .
6- ثم ما رأي هؤلاء المفترين على الإسلام في حالة المسلمين لمَّا ذهبت ريحهم ، وانقسمت دولتهم الكبرى إلى دويلات ، وصاروا شيعاً وأحزاباً وتعرضوا لمحن كثيرة في تاريخهم الطويل كمحنة التتار ، والصليبيين في القديم ، ودول الاستعمار في الحديث ، وكل محنة من هذه المحن كانت كافية للمكرهين على الإسلام أن يتحللوا منه ويرتدوا عنه ، فأين هم الذين ارتدوا عنه ؟ أخبرونا يا أصحاب العقول !!.
إن الإحصائيات الرسمية لتدل على أن عدد المسلمين في ازدياد على الرغم من كل ما نالهم من اضطهاد وما تعرضوا له من عوامل الإغراء ، وقد خرجوا من هذه المحن بفضل إسلامهم وهم أصلب عودا وأقوى عزيمة على استرداد مجدهم التليد وعزتهم الموروثة .
بل ما رأي هؤلاء في الدول التي لم يدخلها مسلم مجاهد بسيفه ؟ وإنما انتشر فيها الإسلام بوساطة العلماء والتجار والبحّارة كأندونيسيا ، والصين ، وبعض أقطار إفريقيا ، وأوروبا وأمريكا ، فهل جرَّد المسلمون جيوشاً أرغمت هؤلاء على الإسلام ؟ ألا فليسألوا أحرار الفكر الذين أسلموا من أوروبا وغيرها ، وسيجدون عندهم النبأ اليقين .
لقد انتشر الإسلام في هذه الأقطار بسماحته ، وقربه من العقول والقلوب ، وها نحن نرى كل يوم من يدخل في الإسلام ، وذلك على قلة ما يقوم به المسلمون من تعريف بالإسلام ، ولو كنا نجرد للتعريف به عشر معشار ما يبذله الغربيون من جهد ومال لا يحصى في سبيل التبشير بدينهم وحضارتهم ، لدخل في الإسلام ألوف الألوف في كل عام . ولن ترى ـ إن شاء الله ـ من يحل عروة الإسلام من عنقه أبداً مهما أنفقوا في سبيل دعاياتهم التبشرية ، وبعثاتهم التعليمية والتنصيرية .
أما بعد : فقد لاح الصبح لذي عينين ، وتبيَّن الحق لكل ذي عقل وقلب ، وما إخالك ـ أيها القاريء المنصف ـ إلا إزددت بسماحة الإسلام وسماحة الرسول صلى الله عليه وسلم في الدعوة إليه ، وأن ما ردَّده المستشرقون والمبشرون ما هو إلا فرية كبرى :
( كبرت كلمةً تخرج من أفواههم ، إن يقولون إلا كذبا ) (الكهف/5)
الإثنين : 09/12/2002
(الشبكة الإسلامية)السيرة النبوية للشيح: محمد أبوشهبة