المناداة بالاختلاط المطلق
من الصيحات التي يطلقها أدعياء تحرير المرأة ، المطالبة بإتاحة الفرص للاختلاط المطلق بين الرجال والنساء ، الاختلاط بلا حدود ، ولا حواجز ، ولا قيود ، في البيت ، وفي دور التعليم في كل مراحله ، وفي المعمل ، والمكتب ، والمتجر ، وفي السوق ، وفي النوادي ، والملاهي ، وفي الأسفار إلى خارج البلاد لتبادل الزيارات بين شباب العالم ، وفي كل مجال من مجالات الحياة ، يجب أن يكون هناك اختلاط ، لأن ضرورة الحياة ، ومتطلبات العصر ، ومصلحة الفتاة والفتى ، ومصلحة الأمة والمجتمع تقضي بذلك وتحتمه.
وذلك لأن الاختلاط – كما يزعمون – يهذب المشاعر الجنسية ، ويكسر من حدتها ، لأنه يقضي على الجوع الجنسي الفائر ، الذي يؤدي إلى الانحراف والشذوذ ، وحين يرى الشاب الفتاة وتراه ، ويطمئن كل منهما إلى الرؤية والمقابلة ، وتزول اللهفة المتلصصة المختلسة ، لا يعود الجنس هو الشاغل الأول لهما ، ويرتفع الشاب والفتاة عن بهيمية الغريزة ، ويشغلان لقاءهما بشؤون العلم ، والأدب ، ومناقشة الأمور السياسية والاجتماعية والفكرية ، وغيرها من الأمور الخارجة عن نطاق الجنس.
والشاب في المجتمع المختلط – كما يدّعون – تتهذب ألفاظه ، فلا ينطق بالفحش الذي يستبيحه لنفسه في مجتمع الشبان ، مراعاة لمشاعر الفتاة وأحاسيسها المرهفة.
وحين تتعود الفتاة على لقاء الرجل وصحبته ، تتغير في ذهنها الصورة التي تخيلتها عنه ، وانطبعت في ذهنها ، بتأثير البيئة المتحفظة ، فلا يعود الرجل ذلك الذئب المفترس ، ولا الحيوان الجائع ، ولا الجسد الظامئ ، ولا الكائن المرهوب.
وبالتقاء الفتاة بالفتى ، يتعرف كل منهما على طباع الآخر ، فلا يكون اللقاء في الزواج ، مسبباً لتوتر الأعصاب ، وإرباك الأفهام.
وبالتقاء الجنسين واختلاطهما تكون متعة الجنس الهادئة ، وتزول العقد النفسية التي يسببها الكبت الجنسي للذكر والأنثى معاً ، فيتفرغ كل منهما لواجبه وعمله ، ولا تعود الفتاة تنفق كل طاقتها في التزين ، لتتصيد الرجال ، ولا يعود التصيد هو جل همها ، إذ أن اللقاء أصبح متاحاً لها ، واجتباء الصديق ، أو العشيق حق من حقوقها ، أقره المجتمع ، ويحميه القانون.
قالوا كل ذلك عن الاختلاط وفوائد الاختلاط ومميزاته ، قالوه بألسنتهم وعلى صفحات الكتب والصحف ، وبواسطة وسائل الإعلام الأخرى ، أما في واقع الأمر ، وفي مجال التطبيق والعمل ، فلا نرى أثراً لما قالوا.
فالواقع في البلاد التي طبقت هذا المبدأ بحذافيره يخالف ما قالوا ، فنرى الفضائح الأخلاقية والشذوذ الجنسي ، وأنواع الانحرافات ، وارتفاع نسبة الطلاق ، وقد أصبحت هذه الأمور شيئاً عادياً ومألوفاً ، لا يحدث اشمئزازاً ، ولا يثير احتجاجاً ،
ولم نر الاختلاط ينتج الاستمتاع الجنسي الهادئ ، فيغني عن الإسراف فيه ،
ولم نر الفتاة بسبب الاختلاط تنصرف – كما زعموا – إلى عملها ، وتكف عن الإسراف في التزين لتصيد الشباب ، ولم نر الشباب يفعلون ذلك أيضاً.
ولم نر الشاب والشابة في لقائهما المستمر ، ينشغلان بغير الجنس ، وأحلامه ومغامراته ، أما العمل أما المذاكرة التي جاءا من أجلها فهي آخر ما يذكرانه ويفعلانه ،
ولم يؤد الاختلاط – كما زعموا – إلى تعرف كل من الفتى والفتاة على الآخر حقيقته فيتصنع ما ليس له طبعاُ من الصفات والسمات ، وتكون الكارثة بعد الزواج ، حيث يظهر وينكشف المستور ، ويتضح الزيف ، ويظهر كل منهما على حقيقته المغايرة لما كان يتظاهر به من قبل ، ولا تحسبه قضى على التوتر العصبي ، والعقد النفسية – كما قالوا –
بل إن الاختلاط نفسه سبب في حدوث توتر الأعصاب ، بما يشاهد المشاهد أنَّى اتجه ، وحيث كان من الجمال الفاتن المكشوف السافر ، والمناظر الجنسية المثيرة.
ولعل الاختلاط وما يسببه من توترات الأعصاب والعقد النفسية ، عامل قوي من عوامل كثرة الانتحار في بلاد الغرب ،
بل إن ما يحدثه الاختلاط هو عكس ما يدعون تماماً ، فما تزيدهم تلك المظاهر الخلابة من الجمال النسوي المكشوف إلا شوقاً ورغبة ونهماً ، لأن نار الشهوة والعاطفة البهيمية المتأججة في الصدور لا تخمد ولا تكتفي بمنظر تراه من السفور والخلاعة ، بل تزداد لهيباً ، وتطلب منظراً آخر ، أكثر منه سفوراً وحسوراً وتكشفاً ، وهكذا تفننوا في شتى الوسائل والأساليب ، لمحاولة إطفاء أوار نهمهم ، وإرواء غليانهم الملتهب ، وما هذه الصورة العارية ، وهذا الأدب المكشوف ، والقصص الغرامية ، وهذه المراقص والملاهي ، والمسرحيات المشحونة بالإغراءات والنزعات العارمة ، ما هذه كلها إلا نماذج من جهودهم ، وحيلهم التي أوجدوها ، لإخماد نار الشهوات المتأججة ، وإشباع الغرائز الجامحة ، ولكن أنّى لهم ذلك ، وكل ما في حياتهم يغري ويثير ويهيج.
وكل الذي اختفى هو التحايل على حصول المتعة المحرمة ، والمعاكسة في الطرقات ، وهذه لم تختف ترفعاً وتنزهاً ، وإنما اختفت من شدة التيسير لتلك المطالب والمتع.
إن الاختلاط بطبيعته – وكما هو الواقع – يستحث في النساء حب التبرج والعري ، بما يلفت أنظار الرجال ، ويثير إعجابهم ، لأن الجاذبية الجنسية التي قد أودعتها فطرة الرجل والمرأة تزداد قوة وانتشاراً باختلاط الجنسين ، وتتخطى حدوده بكل سهولة ،
ثم من شأن هذا المجتمع المختلط ، أن تنشأ فيه غريزة جديدة في الجنسين ، وهي الظهور بأبهى مظاهر الزينة ، وأشدها اجتذاباً للجنس الآخر ، ولم يعد التزيد من أسباب الزينة ، والتجمل شيئاً ينكر ويعاب ، بسبب تبدل النظريات الخلقية ، بل أصبح التبرج السافر ، والأخذ بكل أسباب الفتنة ، والاستهواء ، أمراً مرغوباً فيه ، ولا يقف هذا الافتتان بإبداء الزينة والجمال عند حد ، بل يتجاوز الحدود كلها واحداً بعد الآخر حتى ينتهي أمره إلى آخر غايات التعري المشين.
إن الإسلام الحكيم كان يدرك خطر ونتائج الجنس غير المنظم على الحياة والفرد والأمة كلها ، حين اشتد غاية الشدة في أمره ، فسنّ التشريعات الوقائية ، ووضع التحفظات الكثيرة ، التي تمنع انطلاق الجنس من عقاله بلا قيود ، فعني بتقوية الخشية من الله في الإنسان ، وبترسيخ فطرة الحياء فيه ، لتكون سياجاً داخلياً ، وشرع الحجاب للمرأة لتستر مفاتنها عن الأجانب ، والاستئذان عند دخول البيت ، وأمر بغض البصر من كل من الرجل والمرأة ، ومنع الاختلاط والخلوة بين الرجل والمرأة ، وحظر سفر المرأة بدون محرم لها ، ثم وضع الحدود الزاجرة والرادعة لمن تخطى هذه الحواجز والموانع ، وارتكب المحظور.
كل هذه الحواجز والموانع والسدود المتعددة والمتنوعة ، وضعها الإسلام في طريق الجنس الجامح ، والشهوة البهيمية الفوضوية ، وغير المشروعة ، وما ذاك إلا لإدراك الإسلام لمخاطرها وعواقبها الوخيمة على الفرد والأمة.
ولقد دلت الوقائع والأحداث ، أنه ما سرى هذا الداء – داء الجنس العارم – في مفاصل أمة إلا أوردها موارد التلف والفناء ، قال الله تعالى: (وإذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها ففسقوا فيها فحق عليها القول فدمرناها تدميراً) ، ذلك بأنه يقتل في الإنسان كل ما آتاه الله من القوى العقلية ، والجسدية ، لبقائه وتقدمه في هذه الحياة ،
وأنَّى للناس ذلك الهدوء وتلك الدعة والسكينة التي لا بد منها لمعالجة أعمال الإنشاء والتعمير ، ما دامت تحيط بهم محركات شهوانية من كل جانب ، وتكون عواطفهم عرضة أبداً لكل فن جديد من الإغراء والتهييج ، ويحيط بهم وسط شديد الإثارة ، قوي التحريض ، يجعل الدم في عروقهم في غليان مستمر ، بتأثير ما حولهم من الأدب الخليع ، والصور العارية ، والأغاني الماجنة ، والأفلام الغرامية ، والرقص المثير ، والمناظر الجذابة من الجمال الأنثوي العريان ، وفرص الاختلاط المتاحة بالصنف الآخر؟ - أستغفر الله –
بل أنَّى لهم ولأجيالهم الناشئة أن يجدوا في غمرات هذه المهيجات الجو الهادئ المعتدل ، الذي لا غنى لهم عنه لتنشئة قواهم الفكرية والعقلية ، وهم لا يكادون يبلغون الحلم ، حتى يقتلهم غول الشهوات البهيمية ، ويستحوذ عليهم؟ ، وإذا هم وقعوا بين فكي هذا الغول ،
فأنَّى لهم النجاة منه ومن غوائله وعواديه؟