ج 10:الرد على شبهات تقديم العقل على النقل(ذم من عارض القرآن وخالفه، وجادل بما يناقضه)
من كتاب :نقض أصول العقلانيين
كتبه / سليمان بن صالح الخراشي
الوجه الثالث والأربعون: أن يقال : كل من سمع القرآن من مسلم وكافر، علم بالضرورة أنه قد ضمن الهدى والفلاح لمن أتّبعه، دون من خالفه، كما قال تعالى: (آلم . ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين). وقال تعالى: (آلمص. كتاب أنزل إليك فلا يكن في صدرك حرج منه لتنذر به وذكرى للمؤمنين. أتبعوا ما أنزل إليكم من ربكم ولا تتبعوا من دونه أولياء) وقال: (فإما يأتينكم مني هدى فمن تبع هداي فلا يضل ولا يشقى. ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكاً ونحشره يوم القيامة أعمى. قال رب لم حشرتني أعمى وقد كنت بصيراً. قال كذلك أتتك آياتنا فنسيتها وكذلك اليوم تنسى. وكذلك نجزي من أسرف ولم يؤمن بآيات ربه ولعذاب الآخرة أشد وأبقى) . وقال تعالى: (وهذا كتابٌ أنزلناه مبارك فاتبعوه واتقوا لعلكم ترحمون). وقال تعالى: (وإنك لتهدي إلى صراطٍ مستقيم) . وقال تعال: (كتاب أنزلناه إليك لتخرج الناس من الظلمات إلى النور بإذن ربهم إلى صراط العزيز الحميد. الله الذي له ما في السموات وما في الأرض) . وكذلك نعلم أنه ذم من عارضه وخالفه، وجادل بما يناقضه، كقوله تعالى (ما يجادل في آيات الله إلا الذين كفروا) . وقال تعالى: (إن الذين يجادلون في آيات الله بغير سلطان أتاهم إن في صدورهم إلا كبر ما هم ببالغيه) وأمثال ذلك.
وإذا كان كذلك، فقد علم بالاضطرار أن من جاء بالقرآن، أخبر أن من صدّق بمضمون أخباره فقد علم الحق واهتدى، ومن أعرض عن ذلك كان جاهلاً ضالاً، فكيف بمن عارض ذلك وناقضه؟! وحينئذ فكل من لم يقل بما أخبر به القرآن عن صفات الله واليوم الآخر وغيرها .
كان عند من جاء بالقرآن جاهلاً ضالاً، فكيف بمن قال بنقيض ذلك؟!
فالأول عند من جاء بالقرآن في الجهل البسيط، وهؤلاء في الجهل المركب.
ولهذا ضرب الله تعالى مثلاً لهؤلاء، ومثلاً لهؤلاء، فقال: (والذين كفروا أعمالهم كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء حتى إذا جاءه لم يجده شيئاً ووجد الله عنده فوفاه حسابه والله سريع الحساب) … فهذا مثل أهل الجهل المركب.
وقال تعالى: (أو كظلمات في بحر لُجي يغشاه موجٌ من فوقه موجٌ من فوقه سحاب ظلمات بعضها فوق بعض إذا أخرج يده لم يكد يراها ومن لم يجعل الله له نوراً فما له من نور) ، فهذا مثل أهل الجهل البسيط .
ومن تمام ذلك أن يعرف أن الضلاّل تشابها في شيئين: أحدهما الإعراض عمّا جاء به الرسول e ، والثاني معارضته بما يناقضه، فمن الثاني الاعتقادات المخالفة للكتاب والسنة.
فكل من أخبر بخلاف ما أخبر به الرسول عن شيء من أمر الإيمان بالله واليوم الآخر أو غير ذلك فقد ناقضه وعارضه، سواء اعتقد ذلك بقلبه، أو قاله بلسانه.
وهذا حال كل بدعة تخالف الكتاب والسنة، وهؤلاء من أهل الجهل المركب، الذين أعمالهم كسراب بقيعة .
ومن لم يفهم خبر الرسول ويعرفه بقلبه، فهو من أهل الجهل البسيط، وهؤلاء من أهل الظلمات.
وأصل الجهل المركب هو الجهل البسيط، فإن القلب إذا كان خالياً من معرفة الحق، واعتقاده والتصديق به، كان معرضاً لأن يعتقد نقيضه ويصدق به، لا سيما في الأمور الإلهية، التي هي غاية مطالب البرية، وهي أفضل العلوم وأعلاها، وأشرفها وأسماها، والناس الأكابر لهم إليه غاية التشوف والاشتياق، وإلى جهته تمتد الأعناق، فالمهتدون فيه أئمة الهدى، كإبراهيم الخليل وأهل بيته، وأهل الكذب فيه أئمة الضلال، كفرعون وقومه.
قال الله تعالى في أولئك: (وجعلناهم أئمة يهدون بأمرنا وأوحينا إليهم فعل الخيرات وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وكانوا لنا عابدين) . وقال تعالى في الآخرين: (وجعلناهم أئمة يدعون إلى النار ويوم القيامة لا ينصرون) . فمن لم يكن على طريق أئمة الهدى كان ثغر قلبه مفتوحاً لأئمة الضلال.
الوجه الرابع والأربعون: أن يقال: المعارضون للكتاب والسنة بآرائهم لا يمكنهم أن يقولوا: إن كل واحد من الدليلين المتعارضين هو يقيني، وقد تناقضا على وجهٍ لا يمكن الجمع بينهما، فإن هذا لا يقوله عاقل يفهم ما يقول، ولكن نهاية ما يقولونه: إن الأدلة الشرعية لا تفيد اليقين، وإن ما ناقضها من الأدلة البدعية – التي يسمونها العقليات- تفيد اليقين، فينفون اليقين عن الأدلة السمعية الشرعية، ويثبتونه لما ناقضها من أدلتهم المبتدعة، التي يدعون أنها براهين قطعية.
ولهذا كان لازم قولهم الإلحاد والنفاق، والإعراض عمّا جاء به الرسول، والإقبال على ما يناقض ذلك، كالذين ذكرهم الله تعالى في كتابه من مجادلي الرسل، كما قال: (وهمت كل أمةٍ برسولهم ليأخذوه وجادلوا بالباطل ليدحضوا به الحق فأخذتهم فكيف كان عقاب). وقوله تعالى: (ما يجادل في آيات الله إلا الذين كفروا فلا يغررك تقلبهم في البلاد) ، وقوله تعالى: (وكذلك جعلنا لكل نبي عدواً شياطين الإنس والجن يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غروراً ولو شاء ربك ما فعلوه فذرهم وما يفترون. ولتصغى إليه أفئدةُ الذين لا يؤمنون بالآخرة وليرضوه وليقترفوا ما هم مقترفون) . وأمثال ذلك.
الوجه الخامس والأربعون: أن يقال : العقليات التي يقال أنها أصل للسمع وأنها معارضة له ليست مما يتوقف العلم بصحة السمع عليها فامتنع أن تكون أصلاً له بل هي باطلة وقد اعترف بذلك أئمة أهل النظر من أهل الكلام والفلسفة.
الوجه السادس والأربعون: أنكم إذا اعتقدتم في الدليل السمعي أنه ليس بدليل في نفس الأمر بل اعتقاد دلالته على مخالف ما زعمتموه من العقل جهل أمكن أتباع الرسل المصدقين بما جاءوا به أن يعتقدوا في أدلتكم العقلية أنها ليست بأدلة في نفس الأمر وأن اعتقاد دلالتها جهل ويرمون أدلتكم بما رميتم به الأدلة السمعية ثم الترجيح من جانبهم من وجوه متعددة وكانوا في هذا الرمي أحسن حالاً منكم وأعذر، فإن معهم من البراهين الدالة على صحة ما أخبر به السمع إجمالاً وتفصيلاً من المعقول أصح مما معكم، ولا تذكرون معقولاً يعارض ما ورد به الوحي إلا ومعهم معقول أصح منه يصدقه