ج 11:الرد على شبهات تقديم العقل على النقل(تقديم العقل على الشرع يقدح في العقل والشرع)
من كتاب :نقض أصول العقلانيين
كتبه / سليمان بن صالح الخراشي
الوجه السابع والأربعون: أن يقال: إن تقديم العقل على الشرع يتضمن القدح في العقل والشرع؛ لأن العقل قد شهد للوحي بأنه أعلم منه وأنه لا نسبة له إليه، وأن نسبة علومه ومعارضه إلى الوحي، أقل من خردلة بالإضافة إلى جبل أو تلك التي تَعْلق بالإصبع بالنسبة إلى البحر، فلو قدم حكم العقل عليه لكان ذلك قدحاً في شهادته، وإذا بطلت شهادته بطل قبول قوله، فتقديم العقل على الوحي، يتضمن القدح فيه وفي الشرع وهذا ظاهر لا خفاء به يوضحه :
الوجه الثامن والأربعون: وهو أن الشرع مأخوذ عن الله بواسطة الرسولين الملكي والبشري بينه وبين عباده مؤيداً بشهادة الآيات وظهور البراهين على ما يوجبه العقل ويقتضيه تارة، ويستحسنه تارة، ويجوزه تارة، ويكع عن دركه تارة، ولا سبيل له إلى الإحاطة به، ولابد له من التسليم والانقياد لحكمه والإذعان والقبول، وهناك يسقط ((لم))، ويبطل ((كيف))، ويزول ((هلا))، ويذهب ((لو)) ((وليت)) في الريح لأن هذه المواد عن الوحي محبوسة، واعتراض المعترض عليه مردود واقتراح المقترح ما يظن أنه أولى منه سفه وجهل، فالشريعة مشتملة على أعلى أنواع الحكمة علماً وعملاً التي لو جمعت حكم جميع الأمم ونسبت إليها لم يكن لها إليها نسبة، وهي متضمنة لأعلى المطالب بأقرب الطرق وأتم البيان، فهي متكفلة بتعريف الخليقة بها وفاطرها المحسن إليها بأنواع الإحسان بأسمائه وصفاته وأفعاله وتعريف الطريق الموصل إلى رضاه وكرامته والداعي لديه، وتعريف حال السالكين بعد الوصول إليه، ويقابل هذه الثلاثة تعريفهم حال الداعي إلى الباطل، والطرق الموصلة إليه، وحال السالكين تلك الطرق وإلى أين تنتهي بهم، ولهذا تقبلها العقول الكاملة أحسن تقبل وقابلتها بالتسليم والإذعان واستدارت حولها بحماية حوزتها والذب عن سلطانها.
فبين ناصر باللغة السائغة، وحام بالعقل الصريح، وذاب عنه بالبراهين، ومجاهد بالسيف والرمح والسنان، ومتفقه في الحلال والحرام، ومعين بتفسير القرآن، وحافظ لمتون السنة وأسانيدها، ومفتش عن أحوال رواتها، وناقد لصحتها من سقيمها، ومعلولها من سليمها، فهي الشريعة ابتداؤها من الله، وانتهاؤها إليه، فمنه بدأت وإليه تعود.
الوجه التاسع والأربعون: أن الله سبحانه قد تمم الدين بنبيه e وأكمله به ولم يحوجه ولا أمته بعده إلى عقل ولا نقل سواه ولا رأي ولا منام ولا كشوف، قال تعالى: (اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام ديناً) . وأنكر على من لم يكتف بالوحي عن غيره، فقال: (أو لم يكفهم أنا أنزلنا عليك الكتاب يُتلى عليهم إن في ذلك لرحمة وذكرى لقومٍ يؤمنون). ذكر هذا جواباً لطلبهم آية تدل على صدقه فأخبر أنه يكفيهم من كل آية فلو كان ما تضمنه من الإخبار عنه وعن صفاته وأفعاله واليوم الآخر يناقض العقل لم يكن دليلاً على صدقه فضلاً عن أن يكون كافياً، وسيأتي في الوجه الذي بعد هذا بيان أن تقديم العقل على النقل يبطل كون القرآن آية وبرهاناً على صحة النبوة، والمقصود أن الله سبحانه تمم الدين وأكمله بنبيه وما بعثه به فلم يحوج أمته إلى سواه، فلو عارضه العقل، وكان أولى بالتقديم منه لم يكن كافياً للأمة ولا كان تاماً في نفسه. في مراسيل أبي داود() أن الرسول e رأى بيد عمر بن الخطاب ورقة فيها شيء من التوراة فقال: كفى بقوم ضلالة أن يتبعوا كتاباً غير كتابهم. أُنْزل على نبي غير نبيهم، فأنزل الله عز وجل: (أو لم يكفهم أنا أنزلنا عليك الكتاب يُتلى عليهم إن في ذلك لرحمة وذكرى لقوم يؤمنون). وقال سبحانه: (فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجاً مما قضيت ويسلموا تسليماً). فأقسم سبحانه بنفسه أنا لا نؤمن حتى نحكم رسوله في جميع ما شجر بيننا، وتتسع صدورنا بحكمه، فلا يبقى منها حرج، ونسلم لحكمه تسليماً فلا نعارضه بعقل ولا رأي ولا هوى ولا غيره، فقد أقسم الرب سبحانه بنفسه على نفي الإيمان عن هؤلاء الذي يقدمون العقل على ما جاء به الرسول وقد شهدوا هم على أنفسهم بأنهم غير مؤمنين بمعناه وإن آمنوا بلفظه، وقال تعالى: (وما اختلفتم فيه من شيء فحكمه إلى الله). وهذا نص صريح في أن حكم جميع ما تنازعنا فيه مردود إلى الله وحده، وهو الحاكم فيه على لسان رسوله فلو قدم حكم العقل على حكمه لم يكن هو الحاكم بوحيه وكتابه وقال تعالى: (اتبعوا ما أنزل إليكم من ربكم ولا تتبعوا من دونه أولياء) فأمر باتباع الوحي المنـزل وحده ونهى عن اتباع ما خالفه وأخبر سبحانه أن كتابه بينة وشفاء وهدى ورحمة ونور وفضل وبرهان وحجة وبيان، فلو كان للعقل ما يعارضه ويجب تقديمه على القرآن لم يكن فيه شيء من ذلك، بل كانت هذه الصفات للعقل دونه وكان عنها بمعزل فكيف يشفي ويهدي ويبين ويفصل ما يعارضه صريح العقل؟
الوجه الخمسون: أن الأدلة السمعية هي الكتاب والسنة، والإجماع. وهو إنما يصار إليه عند تعذر الوصول إليهما، فهو في المرتبة الأخيرة، ولهذا أخره عمر في كتابه إلى أبي موسى حيث كتب إليه: ((اقض بما في كتاب الله، فإن لم يكن في كتاب الله فبما في سنة رسول الله e ، فإن لم يكن في السنة فبما قضى به الصالحون قبلك)) (). وهذا السلوك هو كان سلوك الصحابة والتابعين، ومن درج على آثارهم الأئمة. أول ما يطلبون النازلة من القرآن، فإن أصابوا حكمها فيه لم يعدوه إلى غيره، وإن لم يصيبوها فيه طلبوها من سنة رسول الله e فإن أصابوها لم يعدوها إلى غيرها، وإن لم يصيبوها طلبوها من اتفاق العلماء، وقد صان الله الأمة أن تجمع على خطأ أو على ما يعلم بطلانه بصريح العقل، فإذا كان الإجماع معصوماً أن ينعقد على ما يخالف العقل الصريح، بل إذا وجدنا معقولاً يخالفه الإجماع علمنا قطعاً أنه معقول فاسد، فلأن يصان كتاب الله، وسنة رسوله عن مخالفة العقل الصريح أولى وأحرى.
الوجه الحادي والخمسون: أنه إذا قدر تعارض العقل والكتاب فرد العقل الذي لم تضمن لنا عصمته إلى الكتاب المعلوم العصمة هو الواجب.
الوجه الثاني والخمسون: أن طالب الهدى في غير القرآن والسنة. قد شهد الله ورسوله له الضلال، فكيف يكون عقل الذي قد أضله الله مقدماً على كتاب الله وسنة رسوله؟ قال تعالى في أرباب العقول التي عارضوا بها وحيه: (أفرأيت من اتخذ إلهه هواه وأضله الله على علم وختم على سمعه وقلبه وجعل على بصره غشاوة فمن يهديه من بعد الله أفلا تذكرون) . وقال: (وأن هذا صراطي مستقيماً فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله) .
وقال فيمن قدم عقله على ما جاء به: (إن يتبعون إلا الظن وما تهوى الأنفس ولقد جآءهم من ربهم الهدى)، والقرآن مملوء بوصف من قدم عقله على ما جاء به بالضلال.
وروى الترمذي، وغيره من حديث علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله e يقول: ((إنها ستكون فتنة)) قلت: فما المخرج منها يا رسول الله؟ قال: ((كتاب الله، فيه نبأ ما قبلكم وخبر ما بعدكم، وحكم ما بينكم، وهو الفصل ليس بالهزل، من تركه من جبارٍ قصمه الله، ومن ابتغى الهدى في غيره أضله الله، وهو حبل الله المتين، وهو الذكر الحكيم، وهو الصراط المستقيم، وهو الذي لا تزيغ به الأهواء ولا تلتبس به الألسن، ولا يخلق على كثرة الرد، ولا تنقضي عجائبه، ولا يشبع منه العلماء، وهو الذي لم تنته الجن إذ سمعته حتى قالوا: (إنا سمعنا قرآناً عجباً. يهدي إلى الرشد) من قال به صدق ومن عمل به أجر، ومن حكم به عدل، ومن دعي إليه هدي إلى صراط مستقيم)) .
الوجه الثالث والخمسون: أن أصحاب القرآن والإيمان قد شهد الله لهم، وكفى به شهيداً بالعلم واليقين والهدى، وأنهم على بصيرة وبينة من ربهم، وأنهم هم أولو العقل والألباب والبصائر، وأن لهم نوراً على نور؛ وأنهم المهتدون المفلحون.
قال تعالى في حق الذين يؤمنون بالغيب، ولا يعارضونه بعقولهم وآرائهم: (آلم. ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين. الذين يؤمنون بالغيب ويقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون. والذين يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك وبالآخرة هم يوقنون. أولئك على هدى من ربهم وأولئك هم المفلحون) . وقال: (ويرى الذين أوتوا العلم الذي أنزل إليك من ربك هو الحق ويهدي إلى صراط العزيز الحميد). وهذا دليل ظاهر أن الذي نراه معارضاً للعقل، ويقدم العقل عليه ليس من الذين أوتوا العلم في قبيل ولا دبير، ولا قليل ولا كثير.
وقال: (أفمن يعلم أنما أنزل إليك من ربك الحق كمن هو أعمى) وهذه شهادة من الله على عمى هؤلاء وهي موافقة لشهادتهم على أنفسهم بالحيرة والشك، وشهادة المؤمنين عليهم. وقال: (الله نور السموات والأرض مثل نوره كمشكاة فيها مصباح المصباح في زجاجةٍ الزجاجة كأنها كوكبٌ دريٌ يوقد من شجرة مباركة زيتونةٍ لا شرقية ولا غربية يكاد زيتها يضئ ولو لم تمسسه نارٌ نورٌ على نور. يهدي الله لنوره من يشاء. ويضرب الله الأمثال للناس والله بكل شيء عليم) .
فأخبر سبحانه عن مثل نور الإيمان به، وبأسمائه، وصفاته، وأفعاله وصدق رسله في قلوب عباده، وموافقة ذلك لنور عقولهم وفطرهم التي أبصروا بها نور الإيمان بهذا المثل المتضمن لأعلى أنواع المشهود وأنه نور على نور. نور الوحي ونور العقل. نور الشرعة، ونور الفطرة. نور الأدلة السمعية، ونور الأدلة العقلية. وقال تعالى: (وكذلك أوحينا إليك روحاً من أمرنا ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان ولكن جعلناه نوراً نهدي به من نشاء من عبادنا. وإنك لتهدي إلى صراطٍ مستقيم) . وقال تعالى: (أومن كان ميتاً فأحييناه وجعلنا له نوراً يمشي به في الناس كمن مثله في الظلمات ليس بخارج منها. كذلك زين للكافرين ما كانوا يعملون) وقال تعالى: (فالذين آمنوا به وعزروه ونصروه واتبعوا النور الذي أنزل معه أولئك هم المفلحون) وقال تعالى: (الله ولي الذين آمنوا يخرجهم من الظلمات إلى النور والذين كفروا أولياؤهم الطاغوت يخرجونهم من النور إلى الظلمات أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون) .
ثم أخبر سبحانه عن حال المعرضين عن النور المعارضين للوحي بالعقل بمثلين يتضمن أحدهما وصفهم بالجهل المركب، والآخر بالجهل البسيط، لأنهم بين ناظر وباحث ومقدر ومفكر، وبين مقلد يحسن الظن بهم. فقال في الطائفتين: (والذين كفروا أعمالهم كسرابٍ بقيعةٍ يحسبه الظمآن ماءً حتى إذا جاءه لم يجده شيئاً ووجد الله عنده فوفاه حسابه. والله سريع الحساب. أو كظلمات في بحرٍ لجي يغشاه موجٌ من فوقه موجٌ من فوقه سحاب. ظلماتٌ بعضها فوق بعض إذا أخرج يده لم يكد يراها ومن لم يجعل الله له نوراً فما له من نور) .
الوجه الرابع والخمسون: أن الآيات والبراهين اليقينية، والأدلة القطعية، قد دلت على صدق الرسل، وأنهم لا يخبرون عن الله وأسمائه وصفاته وأفعاله وأحكامه إلا بالحق المحض، فهم صادقون فيما يبلغونه عن الله في الطلب والخبر، وهذا أول درجات النقيضين أنه حق، وأنه لا يجوز أن يكون في الباطن بخلاف ما أخبر به، وأنه يمتنع أن يعارضه دليل قطعي لا عقلي ولا سمعي، فإن كل ما يظن أنه يعارضه من ذلك فهي حجج داحضة، وشبه فاسدة، من جنس شبه السفسطة والقرمطة وإذا كان العقل العالم بصدق الرسول، قد شهد له بذلك، وأنه ممتنع أن يعارض خبره دليلاً صحيحاً، كان هذا العقل شاهداً بأن كل ما عارض ما أخبر به الرسول فهو باطل، فيكون هذا العقل الصحيح، والسمع قد شهدا ببطلان العقل المخالف للسمع.
الوجه الخامس والخمسون: وهو أن الله سبحانه اقتضت حكمته وعدله أن يفسد على العبد عقله الذي خالف به رسله، ولم يجعله منقاداً لهم، مسلماً لما جاءوا به، مذعناً له، بحيث يكون مع الرسول كمملوكة المنقاد من جميع الوجوه، فأول ما أفسد سبحانه عقل شيخهم القديم إبليس، حيث لم ينقد به لأمره، وعارض النص بالعقل، وذكر وجه المعارضة، فأفسد عليه عقله غاية الإفساد، حتى آل الأمر إلى أن صار إمام المبطلين، وقدوة الملحدين، وشيخ الكفار والمنافقين. ثم تأمل كيف أفسد عقول من أعرض عن رسله وعارض ما أرسلوا به، فآل بهم فساد تلك العقول إلى ما قصه الله عنهم في كتابه، ومن فساد تلك العقول أنهم لم يرضوا بنبي من النبيين، ورضوا بإلهٍ من الحجر، ومن فساد تلك العقول أنهم استحبوا العمى على الهدى، وآثروا عقوبة الدنيا والآخرة على سعادتهما، وبدلوا نعمة الله كفراً، وأحلوا قومهم دار البوار.
وأفسد عقول أهل الكتابين بكفرهم بالرسول حتى آل أمرهم إلى مقالات الفلاسفة، التي قدموها على ما جاءت به الرسل، حتى قالوا ما أضحكوا به كافة العقلاء، وإن كانوا أصحاب صنائع وأفكار، واستنبطوها بعقولهم لعجز غيرهم عنها، لكن أفسد عليهم العقل الذي ينال به سعادة الأبد، حتى قالوا في فرية سلسلة الموجودات عن واجب الوجود، ما هو بسلسلة المجانين أشبه منه بكلام عقلاء الآدميين.
وجعلوا العالم الذي شهدت عليه شواهد الصنعة والاحتياج والافتقار من كون غالبه مسخراً، مدبراً، مقهوراً على حركة لا يمكنه الخروج منها، وعلى مكان لا يمكنه مفارقته، وعلى وضع لا يمكنه أن يزول عنه، وعلى ترتيب شهد العقل والفطرة أن غيره رتبه هذا الترتيب، ووضعه في هذا الموضع، وقهره على هذه الحركة.
وكون سافله منفعلاً غير فاعل، متأثراً غير مؤثر كل وقت في مبدأ ومعاد، وشواهد الفقر والحاجة والحدوث ظاهرة على أجزائه وأنواعه، فجعلوه قديماً غير مخلوق، ولا مصنوع، فعطلوه عن صانعه وخالقه، ثم عطلوا الرب الذي فطر السماوات والأرض عن صفات كماله، ونعوت جلاله، وأفعاله، فلم يثبتوا له ذاتاً ولا صفة، ولا فعلاً، ولا تصرفاً باختياره في ملكه ولا عالماً بشيء مما في العالم العلوي والسفلي، وعاجزاً من إنشاء النشأة الأولى أن يعيدها مرة ثانية.
وفي الحقيقة لم يثبتوا رباً أنشأ شيئاً، ولا ينشئه، ولا أثبتوا لله ملائكة، ولا رسلاً، ولا كلاماً، ولا إلهية، ولا ربوبية.
وأما الاتحادية فأفسد عقولهم فلم يثبتوا رباً، وظنوا أن في الخارج إنساناً كلياً، وحيواناً كلياً، وجعلوا وجود الرب وجوداً مطلقاً، مجرداً عن الماهيات، وقالوا: لا وجود للمطلق في الخارج.
وبالجملة: فلم يصيبوا في الإلهيات في مسألة واحدة، بل قالوا في جميعها ما أضحكوا عليهم العقلاء. وأما متكلمو الجهمية، والمعتزلة، فأفسد عقولهم عليهم حتى قالوا ما يسخر العقلاء من قائله، كما تقدم التنبيه على اليسير منه، وقالوا: يتكلم الرب بغير كلام يقوم به، وخالق بلا خلق يقوم به، وسميع بلا سمع، وبصير بلا بصر، وحي بلا حياة، وقدير بلا قدرة، ومريد بلا إرادة، وفعال لما يريد، ولا فعل له ولا إرادة، وقالوا: الرب موجود قائم بنفسه، ليس في العالم ولا خارجه، ولا متصلاً به، ولا منفصلاً عنه، ولا فوقه، ولا تحته، ولا عن يمينه، ولا عن يساره، وقالوا: إنه لم يزل معطلاً عن الفعل، والفعل ممتنع، ثم انقلب من الامتناع إلى الإمكان بغير تجدد سبب أصلاً، وقالوا: إن الأعراض لا تبقي زمانين، وأنكروا القوى، والطبائع، والغرائز، والأسباب، والحِكَم، وجعلوا الأجسام كلها متماثلة. وأثبتوا أحوالاً لا موجودة ولا معدومة، وأثبتوا مصنوعاً بلا صانع ومخلوقاً بلا خالق، إلى أضعاف ذلك مما يسخر منه العقلاء .
وكلما كان الرجل عن الرسول أبعد كان عقله أقل وأفسد، فأكمل الناس عقولاً أتباع الرسل، وأفسدهم عقولاً المعرض عنهم، وعما جاءوا به، ولهذا كان أهل السنة والحديث أعقل الأمة وهم في الطوائف كالصحابة في الناس، وهذه القاعدة مطردة في كل شيء عصي الرب –سبحانه- به، فإنه يفسده على صاحبه، فمن عصاه بماله أفسده عليه، ومن عصاه بجاهه أفسده عليه، ومن عصاه بلسانه أو قلبه أو عضو من أعضائه أفسده عليه، وإن لم يشعر بفساده، فأي فساد أعظم من فساد قلب خربٍ من محبة الله، وخوفه، ورجائه، والتوكل عليه، والإنابة إليه، والطمأنينة بذكره، والأنس به، والفرح بالإقبال عليه؟ وهل هذا القلب إلا قلب قد استحكم فساده؟ والمصاب لا يشعر، وأي فساد أعظم من فساد لسان تعطل عن ذكره، وما جاء به، وتلاوة كلامه، ونصيحة عباده وإرشادهم، ودعوتهم إلى الله، وأي فساد أعظم من فساد جوارح عطلت عن عبودية فاطرها وخالقها وخدمته، والمبادرة إلى مرضاته ؟
وبالجملة فما عُصي الله بشيء إلا أفسده على صاحبه، ومن أعظم معصية العقل إعراضه عن كتابه ووحيه الذي هدى به رسوله، وأتباعه، والمعارضة بينه وبين كلام غيره، فأي فساد أعظم من فساد هذا العقل؟ وقد أرى الله سبحانه أتباع رسوله من فساد عقل هؤلاء ما هو من أقوى أسباب زيادة إيمانهم بالرسول، وبما جاء به، وموجباً لشدة تمسكهم به، ولقد أحسن القائل:
وإذا نظرت إلى أميري زادني نظري له حباً إلى الأمــراء
الوجه السادس والخمسون: أن هؤلاء عكسوا شرعة الله وحكمته، وضادوه في أمره، فإن الله سبحانه جعل الوحي إماماً والعقل مؤتماً به، وجعله حاكماً والعقل محكوماً عليه، ورسولاً والعقل مرسلاً إليه، وميزاناً والعقل موزوناً به، وقائداً والعقل منقاداً له، فصاحب الوحي مبعوث وصاحب العقل مبعوث إليه، والآتي بالشرع مخصوص بوحي من الله وصاحب العقل مخصوص ببحث عن رأي وفكرة، وصاحب الوحي مُلقى وصاحب العقل كادح طالب، هذا يقول أمرت ونهيت وأوحي إليّ، وقيل لي وما أقول شيئاً من تلقاء نفسي ولا من قبل عقلي ولا من جهة فكري ونظري، وذاك المتخلف يقول نظرت ورأيت وفكرت وقدرت واستحسنت واستنتجت، والمتخلف يقول معي آلة المنطق والكليات الخمس والمقولات العشر والمختلطات والموجهات اهتدى بها، والرسول يقول: معي كتاب الله وكلامه ووحيه، والمتخلف يقول معي العقل، والرسول يقول: معي نور خالق العقل به أهدى وأهتدي، والرسول يقول : قال الله كذا، قال جبريل عن الله كذا، والمتخلف يقول: قال أفلاطون قال بقراط، قال أرسطو كذا، قال ابن سينا، قال الفارابي: فيسمع من الرسول ظاهر التنـزيل وصحيح التأويل وشرع سنة، وأمر بمعروف ونهي عن منكر، وخبر عن الله وأسمائه وصفاته وأفعاله، وخبر عن السماء والملائكة واليوم الآخر. ويسمع من الآخر الهيولي والصورة والطبيعة والاستقص والذاتي والعرض والجنس والنوع والفصل والخاصة والأيس والليس، وعكس النقيض والعكس المستوي، وما شاكل هذا() مما لا يسمع من مسلم ولا يهودي ولا نصراني ولا مجوسي، إلا من رضي لنفسه بما يرضى به هؤلاء المتخلفون لأنفسهم ورغب فيما رغبوا فيه، وبالجملة فهما طريقان متباينان، فمن أراد أن يتمعقل بعقول هؤلاء، فليعزل نظره عن الوحي ويخلي بينه وبين أهله، ومن أحب أن يكون من أهل العقل والوحي فليعتصم بالوحي ويستمسك بغرز من جاء به، ويسلم إليه أعظم من تسليم الصبي لأستاذه ومعلمه بكثير، فإن التباين الذي بين النبي وبين صاحب المعقول أضعاف أضعاف التباين الذي بين الصبي والأستاذ.
ومن العجب، أن هؤلاء المقدمين عقولهم على الوحي، خاضعون لأئمتهم وسلفهم، مستسلمون لهم في أمور كثيرة، يقولون: هم أعلم بها منا، وعقولهم أكمل من عقولنا، فليس لنا أن نعترض عليهم فكيف يعترض على الوحي بعقله من نسبته إليه أدق وأقل من نسبة عقل الطفل إلى عقله؟ .
وجماع الأمر أن قضايا المعقول، مشتملة على العلم والظن والوهم، وقضايا الوحي كلها حق، فأين قضايا مأخوذة عن عقل قاصر عجز للخطأ، من قضايا مأخوذة عن خالق العقول وواهبها هي كلامه وصفاته؟!.
الوجه السابع والخمسون: أن المعارضة بين العقل ونصوص الوحي، لا تتأتى على قواعد المسلمين، المؤمنين بالنبوة حقاً، ولا على أصول أحد من أهل الملل، المصدقين بحقيقة النبوة، وليست هذه المعارضة من الإيمان بالنبوة في شيء، وإنما تتأتى هذه المعارضة، ممن يقر بالنبوة على قواعد الفلسفة، ويجريها على أوضاعهم وأن الإيمان بالنبوة عندهم، هو الاعتراف بموجود حكيم، له طالع مخصوص يقتضي طالعه أن يكون متبوعاً، فإذا أخبرهم بما لا تدركه عقولهم عارضوا خبره بعقولهم، وقدموها على خبره، فهؤلاء هم الذين عارضوا بين العقل ونصوص الأنبياء فعارضوا نصوص الأنبياء في باب الإيمان بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، في هذه الأصول الخمس بعقولهم فلم يصدقوا بشيء منها على طريقة الرسل، ثم سرت معارضتهم في المنتسبين إلى الرسل، فتقاسموها تقاسم الوارث لتركه مورثهم، فكل طائفة كان الوحي على خلاف مذهبهم وقول من قلدوه لجأوا إلى هذه المعارضة، واعتصموا بها دون نصوص الوحي، ومعلوم أن هذا يناقض الإيمان بالنبوة، وإن تناقض القائل به فغايته أن يثبت كون النبي رسولاً للعمليات دون العلميات أو في بعض العلميات التي أخبر به دون البعض وهذا أسوأ حالاً ممن جعله رسولاً إلى بعض الناس دون بعض، فإن القائل بهذا يجعله رسولاً في العلميات والعمليات، ولا يعارض بين خبره وبين العقل، وإن تناقض في جحده عموم رسالته بالنسبة إلى كل مكلف، فهذا جحد عموم رسالته إلى المدعوين وذاك جحد عموم رسالته في المدعو إليه المخبر به ولم يؤمن في الحقيقة برسالته لا هذا ولا هذا، فإنه يقال لهذا: إن كان رسول الله إلى هؤلاء حقاً فهو رسوله إلى الآخرين قطعاً لأنه أخبر بذلك، ومن ضرورة تصديقه الإيمان بعموم رسالته، ويقال للآخر: إن كان رسول الله في العمليات وإنها حق من عند الله فهو رسوله في العلميات فإنه أخبر عنه بهذا .
الوجه الثامن والخمسون: وهو أنك إذا جعلت العقل ميزاناً ووضعت في أحد كفتيه كثيراً من الأمور المشاهدة المحسوسة التي ينالها العيان ووضعت في الكفة الأخرى الأمور التي أخبرت بها الرسل عن الله وأسمائه وصفاته وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وجدت ترجيحه لهذه الكفة وتصديقه بها فوق ترجيحه للتي قبلها وتصديقه بها أقوى، ولولا الحس والمشاهد تمنعه من إنكار ذلك لأنكره، وهذه دعوى نعلم أنك تتعجب ممن يدعيها وتنسبه إلى المجازفة، وقلة التحصيل، والخطابة التي تليق بالعامة ولعمر الله إن مدعيها ليعجب من إنكارك لها وتوقفك فيها بعد البيان.
فنقول وبالله التوفيق: أنسب إلى العقل حيواناً يرى ويسمع ويحس ويتكلم ويعمل فغشيه أمر ألقي له كأنه خشبة لا روح فيها وزال إحساسه وإدراكه وتوارى عنه سمعه وبصره وعقله بحيث لا يعلم شيئاً، فأدرك في هذه الحال من العلوم العجيبة والأمور الغائبة ما لم يدركه حال حضور ذهنه واجتماع حواسه ووفور عقله، وعلم من أمور الغيب المستقبلة ما لم يكن له دليل ولا طريق إلى العلم به، وانسب إليه أيضاً حيواناً خرج من إحليلة مجة ماء مستحيلة عن حصول الطعام والشراب كالمخطة فامتزجت بمثلها في مكان ضيق فأقامت هناك برهة من الدهر فانقلبت دماً قد تغير لونها وشكلها وصفاتها فأقامت كذلك مدة ثم انقلبت قطعة لحم فأقامت كذلك مدة ثم انقلبت عظاماً وأعصاباً وعروقاً وأظفاراً مختلفة الأشكال والأوضاع وهي جماد لا إحساس لها ثم عادت حيواناً يتحرك ويتغذى وينقلب ثم أقام ذلك الحيوان مدة طويلة في مكان لا يجد فيه متنفساً وهو داخل أوعية بعضها فوق بعض، ثم انفتح له باب ضيق عن مسلك الذكر فلا يسلكه إلا بضغطة وعصره، فوسع له ذلك الباب حتى خرج منه، وانسب إليه أيضاً شيئاً بقدر الحبة ترسله في مدينة عظيمة من أعظم المدن فيأكل المدينة وكل من فيها ثم يقبل على نفسه فيأكلها وهو النار، وانسب إليه أيضاً شيئاً بقدر بزر الخشخاش() يحمله الإنسان بين ثيابه مدة فينقلب حيواناً يتغذى بورق الشجر برهة ثم إنه يبني على نفسه قباباً مختلفة الألوان من أبيض وأصفر وأحمر بناء محكماً متقناً فيقيم في ذلك البناء مدة من الزمان لا يتغذى بشيء البتة، فينقلب في القبة طائراً له أجنحة يطير بها بعد أن كان دوداً يمشي على بطنه فيفتح على نفسه باب القبة ويطير، وذلك دود القز إلى أضعاف ما ذكرنا مما يشاهد بالعيان مما لو جلي لمن لم يره لعجب من عقل من حكاه له، وقال: وهل يصدّق بهذا عاقل، وضرورة العقل تدفع هذا، وأقام الأدلة العقلية على استحالته، فقام في النائم مثلاً القوى الحساسة أسباب لإدراك الأمور الوجودية وآلة لها، فمن لا يدرك الشيء مع وجودها واستجماعها ووفورها، فأن يتعذر عليه إدراكه مع وجودها وبطلان أفعالها أولى وأحرى وهذا قياس أنت تجده أقوى من الأقيسة التي يعارض بها خبر الأنبياء والحس والعيان يدفعه ومن له خبرة بمواد الأدلة، وترتيب مقدماتها، وله أدنى بيان يمكن أن ينظم أدلة عقلية على استحالة كثير من الأمور المشاهدة المحسوسة، وتكون مقدمات تلك الأدلة من جنس مقدمات الأدلة التي تعارض بها النصوص أو أصح منها، وانسب إلى العقل وجود ما أخبرت به الرسل عن الله وصفاته وأفعاله وملائكته وعن اليوم الآخر، وثبوت هذه الأمور التي ذكرنا اليسير منها، وما لم نذكره، ولم يخطر لنا ببال أعجب من ذلك بكثير نجد تصديق العقل بما أخبرت به الرسل أقرب إليه من تصديقه بهذه الأمور ولولا المشاهدة لكذب بها.
فيالله العجب! كيف يستجيز العقل إنكار ما أخبرت به الرسل بعد أن رأى وعاين وسمع ما لو لا الحس لأنكره غاية الإنكار، ومن ها هنا قال من صح عقله وإيمانه: إن نسبة العقل إلى الوحي أدق، وأقل بكثير من نسبة منادي سن التمييز إلى العقل.
الوجه التاسع والخمسون: إن هؤلاء المعارضين للوحي بعقولهم ارتكبوا أربع عظائم: إحداها : ردهم لنصوص الأنبياء – صلوات الله وسلامه عليهم-
الثانية: إساءة الظن به، وجعله منافياً للعقل، مناقضاً له.
الثالثة: جنايتهم على العقل بردهم ما يوافق النصوص من المعقول؛ فإن موافقة العقل للنصوص التي زعموا أن العقل يردها أظهر للعقل من معارضته لها،
الرابعة: تكفيرهم أو تبديعهم وتضليلهم لمن خالفهم في أصولهم، التي اخترعوها، وأقوالهم التي ابتدعوها، مع أنها مخالفة للعقل والنقل، فصوبوا رأي من تمسك بالقول المخالف للعقل والنقل، وخطئوا من تمسك بما يوافقهما، وراج ذلك على من لم يجعل الله له نوراً، ولم يشرق على قلبه نور النبوة .
الوجه الستون: أن من عارض بين الوحي والعقل فقد قال بتكافؤ الأدلة، لأن العقل الصحيح لا يكذب، والوحي أصدق منه، وهما دليلان صادقان، فإذا تعارضا تكافئا، فإن لم يقدم أحدهما بقي في الحيرة والشك وإن قدم أحدهما على الآخر أبطل موجب الدليل الصحيح، وأخرجه عن كونه دليلاً، فيبقى حائراً بين أمرين لابد له من أحدهما، إما أن يسيء الظن بالوحي، أو بالعقل، والعقل عنده أصل الوحي، فلا يمكنه أن يسيء الظن به، فيسطو على الوحي تارة بالتحريف، والتأويل، وتارة بالتخييل، وتارة بالدفع والتكذيب، إن أمكن، وذلك في نصوص السنة، وتارة يدعي ذلك في نصوص القرآن، كما يدعيه غلاة الرافضة وكثير من القرامطة وأشباههم، وهذا كله إنما نشأ من ظنونهم الفاسدة، أن العقل الصحيح يعارض الوحي الصريح، وأما أهل العلم والإيمان، أهل السمع والنقل، فعندهم أن فرض هذه المسألة محال، وأن فرضها كفرض مسألة إذا تعارض العقل وأدلة ثبوت النبوة والرسالة، وإذا تعارض العقل وأدلة ثبوت الخالق وتوحيده، ومعارضة هؤلاء ومن وافقهم على بعضها، تُبَين له أن القوم لا عقل ولا نقل.
الوجه الحادي والستون: أن الله سبحانه نهى المؤمنين أن يتقدموا بين يدي رسوله وأن يرفعوا أصواتهم فوق صوته وأن يجهروا له بالقول كجهر بعضهم لبعض وحذرهم من حبوط أعمالهم بذلك؛ فقال: (يا أيها الذين آمنوا لا تقدموا بين يدي الله ورسوله واتقوا الله إن الله سميع عليم. يا أيها الذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي) فإذا كان سبحانه قد نهى عن التقديم بين يديه، فأي تقديم أبلغ من تقديم عقله على ما جاء به؟ قال غير واحد من السلف: ولا تقولوا حتى يقول ولا تفعلوا حتى يأمر، ومعلوم قطعاً أن من قدم عقله أو عقل غيره على ما جاء به، فهو أعصى الناس لهذا النبي e ، وأشدهم تقدماً بين يديه، وإذا كان سبحانه قد نهاهم أن يرفعوا أصواتهم فوق صوته، فكيف برفع معقولاتهم فوق كلامه، وما جاء به؟ ومن المعلوم قطعاً أنه لم يكن يفعل هذا في عهده إلا الكفار والمنافقون، فهم الذين حكى الله سبحانه عنهم معارضة ما جاء به بعقولهم وآرائهم، وصارت تلك المعارضة ميراثاً في أشباههم، كما حكى الله عن المشركين معارضة شرعه وأمره، بقضائه وقدره.
الوجه الثاني والستون: أن معارضة الوحي بالعقل ميراث عن الشيخ أبي مرة()، فهو أول من عارض السمع بالعقل وقدمه عليه، فإن الله سبحانه لما أمره بالسجود لآدم عارض أمره بقياس عقلي مركب من مقدمتين حمليتين:
إحداهما: قوله: (أنا خيرٌ منه) فهذه هي الصغرى، والكبرى محذوفة، تقديرها و((الفاضل لا يسجد للمفضول))، وذكر مستند المقدمة الأولى وهو أيضاً قياس حملي حذف إحدى مقدمتيه فقال: (خلقتني من نار وخلقته من طين).
والمقدمة الثانية كأنها معلومة، أي: ومن خلق من نار أفضل ممن خلق من طين، فهما قياسان متداخلان، وهذه يسميها المنطقيون الأقيسة المتداخلة، فالقياس الأول هكذا: أنا خير منه، وخير المخلوقين لا يسجد لمن هو دونه، وهذا من الشكل الأول.
والقياس الثاني هكذا: خلقتني من نار وخلقته من طين والمخلوق من النار خير من المخلوق من الطين فنتيجة هذا القياس العقلي: أنا خير منه، ونتيجة الأول ولا ينبغي لي أن أسجد له.
وأنت إذا تأملت مادة هذا القياس وصورته رأيته أقوى من كثير من قياساتهم، التي عارضوا بها الوحي، وقدموها عليه، ولكل باطل، وقد اعتذر أتباع الشيخ له بأعذار : ومنها أنه لما تعارض عنده العقل والنقل قدم العقل. ومنها أن الخطاب بصيغة الضمير في قوله اسجدوا لا عموم له، فإن الضمائر ليست من صيغ العموم. ومنها: أنه وإن كان اللفظ عاماً، فإنه خصه بالقياس المذكور، ومنها أنه لم يعتقد أن الأمر للوجوب، بل حمله على الاستحباب، لأنه المتيقن، أو على الرجحان دفعاً للاشتراك والمجاز. ومنها: أنه حمله على التراخي، ولم يحمله على الفور، ومنها : أنه صان جناب الرب أن يسجد لغيره، ورأى أنه لا يليق به السجود لسواه، فبالله تأمل هذه التأويلات، التي يذكـرها كثيـر من النـاس،
والمعارضات التي عارض بها النصوص، وفي بني آدم من يصوب رأي إبليس وقياسه، ويقول الصواب معه، ولهم في ذلك تصانيف وكان بشار بن برد الأعمى الشاعر على هذا المذهب، يقول في قصيدته الرائية:
الأرض مظلمة سوداء مقتمة والنار معبودة مذ كانت النار
ولما علم الشيخ أنه قد أصيب من معارضة الوحي بالعقل، وعلم أنه لا شيء أبلغ في مناقضة الوحي والشرع، وإبطاله من معارضته بالعقول، أوحى إلى تلامذته وإخوانه من الشبهات الخيالية ما يعارض به الوحي، وأوهم أصحابه وتلاميذه أنها قواطع عقلية، وقال: إن قدمتم الوحي عليها فسـدت عقولـكم،
قال تعالى: (وإن الشياطين ليوحون إلى أوليائهم ليجادلوكم وإن أطعتموهم إنكم لمشركون).
ومن المعلوم أن وحيهم إنما هو شبه عقلية، وقال تعالى: (وكذلك جعلنا لكل نبي عدواً شياطين الإنس والجن يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غرورا ولو شاء ربك ما فعلوه فذرهم وما يفترون. ولتصغى إليه أفئدة الذي لا يؤمنون بالآخرة وليرضوه وليقترفوا ما هم مقترفون. أفغير الله أبتغي حكماً وهو الذي أنزل إليكم الكتاب مفصلاً والذين آتيناهم الكتاب يعلمون أنه منـزل من ربك بالحق فلا تكونن من الممترين. وتمت كلمت ربك صدقاً وعدلاً لا مبدل لكلماته وهو السميع العليم. وإن تطع أكثر من في الأرض يضلوك عن سبيل الله إن يتبعون إلا الظن وإن هم إلا يخرضون. إن ربك هو أعلم من يضل عن سبيله وهو أعلم بالمهتدين) .