صراع من أجل قضية الإيمان باليوم الآخر
والفكر الدّيني الصّحيح حَوْلها
من كتاب :
صِرَاعُ مَعَ المَلاحِدَة حتى العظم
تأليف
عبد الرحمن حسن حبنّكة الميدان
اعتمد الناقد (د. العظم) في إنكار الآخرة ، والبعث بعد الموت للحساب والجزاء على أقوال (برتراند رسل) ، وزعم أن أقواله تلخيص للنظرة العلمية حول هذا الموضوع ، مع أن (رسل) لم يقدم في كلامه إلا مجرد النفي الذي لا تدعمه أدلة علمية ، ومعلوم أن النفي المجرد عن الأدلة المصححة للنفي يستطيع أن يفعله أي إنسان ، إذ يستطيع أن ينفي به أية حقيقة من الحقائق ، فهو لا يكلف صاحبه إلا أن يقول : (لا)، أو يرفع رأسه إلى أعلى إشارة للنفي ، لكنه بذلك يخسر أصل إنسانيته التي زانها العقل السليم ، والمنطق المحاكم للأمور بميزان مستقيم .
قال (العظم) في الصفحة (27) من كتابه:
"وفي مناسبة أخرى عندما سئل (رسل) : هل يحيى الإنسان بعد الموت؟ أجاب بالنفي ، وشرح جوابه بقوله: عندما ننظر إلى هذا السؤال من زاوية العلم وليس من خلال ضباب العاطفة نجد أنه من الصعب اكتشاف المبرر العقلي لاستمرار الحياة بعد الموت . فالاعتقاد السائد بأننا نحيا بعد الموت – يبدو لي – بدون أي مرتكز أو أساس علمي . ولا أظن أنه يتسنى لمثل هذا الاعتقاد أن ينشأ وأن ينتشر لولا الصدى الانفعالي الذي يحدثه فينا الخوف من الموت . لا شك أن الاعتقاد بأننا سنلقى في العالم الآخر أولئك الذين نكنُّ لهم الحب يعطينا أكبر العزاء عند موتهم ، ولكنني لا أجد أي مبرر لافتراض أن الكون يهتم بآمالنا ورغباتنا ، فليس لنا أي حق في أن نطلب من الكون تكييف نفسه وفقاً لعواطفنا وآمالنا ، ولا أحسب أنه من الصواب والحكمة أن نعتنق آراء لا تستند إلى أدلة بينة وعلمية".
لا بد أن نضع هذا الكلام للفيلسوف الإنكليزي الملحد تحت مناظير البحث المنطقي والعلمي ، لنرى قيمته من الوجهة العقلية والعلمية .
ليس غريباً على (رسل) بعد أن اختار سبيل الإلحاد بالله ، واعتبار الكون ظاهرة مادية بحتة ، على خلاف ما قدمته الأدلة العلمية والعقلية في هذا المضمار ، أن يصعب عليه – في الإطار المادي البحت – اكتشاف المبرر العقلي لاستمرار الحياة بعد الموت .
وليس غريباً عليه بعد ذلك أيضاً أن لا يجد لعقيدة الحياة بعد الموت ، وعقيدة الدار الآخرة للحساب والجزاء ، مرتكزاً علمياً يستند إليه .
نعم ، إن من ينكر حياة كائن ما بغير دليل يجد من الصعب عليه أن يكتشف المبرر العقلي لوجود إرادة لهذا الكون ، لأن إرادته فرع لتصور حياته ، وبعد إنكار الأصل يكون إنكار الفرع شيئاً طبيعياً ، ومذهباً سهلاً ، لكن هذا الإنكار لا يعبر عن الواقع بحال من الأحوال .
إن الإيمان بالحياة بعد الموت للحساب والجزاء في دار غير هذه الدار قضية خبرية ، أي : ذات مستند خبري ، وليست قضية عقلية بحتة حتى نَبْحث في نطاق العقل عن دليل يدلُّ عليها دون الاستناد إلى الإيمان بالله . فلو أن عالماً من علماء الحيوان تحدث عن وجود حيوان بري غريب رآه بعينيه ، وأخذ يصف مشاهداته الحسية له ، ثم جاء سمَّاك فقال : لا أجد المبرر العقلي لوجود هذا الحيوان الغريب الذي يتحدث عنه هذا العالم ، لما كان كلامه أكثر سقوطاً من ناحية الاستدلال العلمي والعقلي من كلام (رسل) إذ أنكر وجود الحياة بعد الموت ، في ظروف غير ظروف هذه الحياة الدنيا ، على الرغم من أن هذا الرجل فيلسوف وعالم واسع الاطلاع ، إلا أن الهوى قد يحوّل عقل الفيلسوف الكبير إلى عقل السمّاك .
لقد أراد (رسل) أن يخضع الدار الآخرة والحياة الأخرى للمقاييس التجريبية التي تخضع لها ظواهر هذا الكون المادية ، في ظروف الحياة الدنيا التي نعيش الآن فيها ، مع أن الدار الآخرة والحياة الأخرى لا تخضع بطبيعتها لهذه المقاييس .
إن (رسل) بقياسه هذا يشبه من يزن الضغط الجوي بميزان البقال ، أو يزن الكثافة بميزان الحرارة ، أو قيس مقدار الذكاء بمساحة الجمجمة ، أو يزن بحور الشعر بالسانتمتر .
ما هو مبلغُ إنكار أي فيلسوف من الصحة إذا هو أنكر قراراً أصدرته دولة كبيرة قادرة ، بأنها ستنشئ في برنامج خطتها لربع قرن مدينة نموذجية بديعة جداً ، لا تُسكن فيها إلا الطبقة الصالحة الراقية من شبعها ، وستنشئ سجوناً إصلاحية أو تأديبية تخصصها للجانحين والخارجين على قوانين الدولة ؟!
فإذا قال فيلسوف كبير : لا أجد مبرراً عقلياً أو علمياً يؤكد أن منشأتين من هذا القبيل ستحدثان ، أفيكون كلامه مقبولاً عند العقلاء الذين علموا بقرار الدولة؟
من البدهي أن استدلال (رسل) استدلال غير منطقي وغير علمي ، وكشف هذا الزيف لا يحتاج إلى فلسفة راقية ، وإنما تكفي فيه البديهة العقلية المسلّمة عند جميع العقلاء ، وكان الأولى له أن يبني إنكاره لقضية الحياة بعد الموت والدار الآخرة على إنكاره لخالق الكون ، فبما أنه جحد الأساس الأول فكل ما يأتي عنه من أنباء وأخبار وقرارات وأحكام مرفوض من وجهة نظره ، وعندئذ تكون معالجته من مواقع هذا الأساس ، لا مما يتفرع عنه ويبنى عليه .
واعتباره عقيدة اليوم الآخر والدار الآخرة ناشئة عن الصدى الانفعالي الذي يحدثه الخوف من الموت ، إنما هو ثمرة من ثمرات جحوده للخالق ، وتخيُّله أن هذا الكون كله ، وما فيه من نظم رفيعة معقدة جداً ، وما ظهر فيه من حياة وفكر ، إنما هو نتيجة مصادفات عثرت عليها حركات ذرات الكون العشوائية ، فهذه الحركات العشوائية تولَّد عنها هذا النظام البديع ، وهذا الوجود كله خال من أي أثر لعقل محرِّك ، وحياة ذات إرادة وخلق وتدبير .
فلما كان هذا الكون كله كذلك من وجهة نظره الملحدة الكافرة بالله الخالق المدبر الحكيم ، كان طبيعياً أن لا يجد هذا الكون المادي الجاهل الأعمى الخالي من كل تدبير حكيم عليم مهتماً بالآمال والرغبات التي تقوم في نفوس الناس ، ولذلك قال:
"ولكنني لا أجد أي مبرر لافتراض أن الكون يهتم بآمالنا ورغباتنا ، فليس لنا أي حق في أن نطلب من الكون تكييف نفسه وفقاً لعواطفنا وآمالنا".
وحين نمنع النظر في الواقع والحقيقة نجد أن الملحدين هم الذين يريدون أن يكيفوا الكون وفق رغباتهم وأهوائهم ، وذلك لأن الإيمان بالدار الآخرة والحياة الآخرة إيمان بمحكمة العدل الرباني ، وما تستتبع من جزاء ، وفي هذه المحكمة العظمى يحاكم الناس ويحاسبون على أعمالهم ، والرغبات الإنسانية لو تركت وشأنها لحلا لها أن تتلخص من قانون الجزاء ، حتى تنطلق في تلبية مطالب أهوائها وشهواتها دون أن تقف في طريقها حدود ولا ضوابط ، فقضية الإنكار هي القضية التي تحاول إخضاع الواقع الكوني للأهواء والعواطف والرغبات ، لا قضية الإيمان باليوم الآخر والحياة الآخرة ، وقد كشف القرآن هذه الحقيقة من حقائق نفوس المنكرين ، فقال الله تعالى في سورة (القيامة/75 مصحف/31 نزول):
{بَلْ يُرِيدُ ٱلإِنسَانُ لِيَفْجُرَ أَمَامَهُ * يَسْأَلُ أَيَّانَ يَوْمُ ٱلْقِيَامَةِ}.
وبهذا التحليل يتبين لنا أن الأمر على عكس ما ادعاه (رسل) ، إذ إن عقيدة الدار الآخرة عقيدة قائمة على مفهوم الجزاء والعدل ، والإنسان ميال بأهوائه وعواطفه إلى أن يصرف عن تصوره قانون العدل الإلهي وما يتصل به ، لينطلق في الحياة الدنيا انطلاقاً فاجراً ، دون أن تقف في طريقه تصورات قانون العدل ، لكن الله غير مستعد لأن يغير من سننه وأحكامه ومقاديره القائمة على أسس من علمه وحكمته وعدله ورحمته وفضله ، تلبية لأهواء وشهوات الجانحين الفاجرين .
فما حاول أن يستند إليه (رسل) هو في الحقيقة دليل ضده ، وليس دليلاً له ، هذا إذا قبلنا بالمنهج الذي سلكه في الاستدلال .
على أن مناقشتنا لمنكري الآخرة تغدو عقيمةً ما داموا مصرين على جحود الخالق ، واعتبار أن هذا الكون كله مظهراً لأصل مادي صرف ، ونتيجة لحركات عشوائية قامت بها ذرات هذا الأصل المادي ، جلُّ ما نستطيع أن نناظرهم به هو إمكان العودة إلى الحياة لا لإثباتها جزماً ، وإفساد مذهبهم المادي من أساسه ، بإثبات عالم آخر غير هذا العالم المادي الخاضع للتجربة الحسية ، والقياس بالأجهزة . والأفضل من ذلك العودة إلى مناظرتهم حول الأساس الأول ، وهو قضية الإيمان بالله تبارك وتعالى .
لكنهم متى قبلوا التسليم الكلي أو الجزئي بعقيدة الإيمان بالله تعالى فإننا حينئذ نستطيع أن نجد سبلاً متعددة لمناقشتهم ، ونستطيع أن نقدم لهم المبررات العلمية والعقلية ، التي تدعم قضية الإيمان بالحياة الآخرة والدار الآخرة للحساب والجزاء .
إن الحقائق الكبرى في الوجود تبدأ من منطلق واحد ، وحين يتعذر الاتفاق على هذا المنطلق فإن الاتفاق على ما يبنى عليه أكثر تعذراً ، بل قد يغدو أمراً مستحيلاً .
إن من لا يؤمن أساساً بقانون العدد من الواحد فما فوق من المستحيل منطقياً مناقشته في قواعد الأعمال الحسابية . ومن هو مصاب بعمى الألوان فهو لا يرى أياً منها ويجحدها يستحيل مناقشته في أجمل الألوان وأكثرها إرضاء للذوق . ومن يجحد مبدأ الحق من أساسه يغدو من العبث مناقشته ومناظرته حول حق المال ، أو حق الحياة ، أو حق العرض والكرامة ، أو أي فرع من فروع الحق . ومن يجحد مبدأ الخير والفضيلة من أساسه يستحيل مناظرته حول فروع الخير والفضيلة ،ما لم يكن متناقضاً مع نفسه ، يسلِّم ببعض الفروع دون أن يسلِّم بالأصول وبالفروع الأخرى ، وحينئذ يمكن جذبه عن طريق الإلزام ، ونقله من الفروع التي يسلم بها إلى الأصول ، وهذا من أساليب المناظرة البارعة .
أما الذين يسلِّمون تسليماً كلياً أو جزئياً بعقيدة الإيمان بالله تعالى ، إلا أنهم ينكرون البعث والحياة الأخرى ، أو يشكُّون بذلك ، فإننا نستطيع أن نقيم لهم عدداً من الأدلة ، ونناقشهم بجملة من المناقشات .
ومفتاح الأدلة النظرية لهذا الموضوع موجود في قول الله تعالى في سورة (المؤمنون/23 مصحف/74 نزول):
{أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لاَ تُرْجَعُونَ * فَتَعَالَى ٱللَّهُ ٱلْمَلِكُ ٱلْحَقُّ لاَ إِلَـٰهَ إِلاَّ هُوَ رَبُّ ٱلْعَرْشِ ٱلْكَرِيمِ }
إن الوجود الإنساني كله عبر تاريخه الطويل يسمى مسرحية من مسرحيات العبث ، لو أن حياة الإنسان تنتهي كلها في ظروف هذه الحياة الدنيا ، ثم لا شيء وراءها .
أين تحقيق قانون العدل الإلهي في ظروف هذه الحياة الدنيا؟
إنه إذا لم يوجد فيها بصورة مستوفية فلا بد أن يوجد في يوم آخر وحياة أخرى أعدها الله للحساب والجزاء ، وإلا كانت عملية خلق الإنسان على هذا الوجه المقرون بحرية الإرادة للإنسان ، والتي كان من نتائجها تاريخ مشحون بالجرائم والظلم والعدوان والمصائب الكثيرة ، عبثاً من العبث ، وقد تعالى الله الملك الحق ذو الحكمة والعدل والكرم عن ذلك علواً كبيراً ، لا إله إلا هو رب العرش الكريم .
إن المنطق الحق والضمير النقي ليشعر بداهة – ولو لم تتنزل آيات الوعد والوعيد ، وأنباء اليوم الآخر وما فيه من حساب وجزاء – بأن مرحلة حياتية غير هذه المراحل لا بد أن يتم فيها تحقيق العدل الإلهي ، ولا بد أن يلاقي الناس فيها جزاء أعمالهم ، إن خيراً فخير ، وإن شراً فشر ، ولئن كنا نشاهد أن بعض تطبيقات العدل الإلهي جارية في ظروف هذه الحياة الدنيا ، ضمن سنن الله الثابتة ، فإن الصورة الكاملة للعدل غير مستكملة في هذه الحياة ، ولذلك كانت الضرورة الأخلاقية والإيمانية تقضي بأن نفهم أن الله قد أعدَّ ظروف حياة أخرى غير هذه الحياة ، لإقامة عدله سبحانه .
وقد تأمل كثير من أهل الفكر والنظر في ظروف هذه الحياة الدنيا دون ملاحظة الآخرة وما فيها من جزاء ، فرأوا أن تاريخ الإنسان فيها صور للجرائم والمصائب وتهريج لا جدوى منه ، وسجل للجرائم والحماقة وخيبة الأمل ، وقصة لا تعني شيئاً ، ونحو ذلك.
قال فولتير: "إن التاريخ الإنساني ليس إلا صورة للجرائم والمصائب".
وقال هربرت سبنسر: "إن التاريخ تهريج وكلام فارغ لا جدوى منه".
وقال إدوارد جين: "إن تاريخ الإنسان لا يعدو أن يكون سجلاً للجرائم والحماقة وخيبة الأمل".
وقال نابليون: "إن التاريخ بأكمله عنوان لقصة لا تعني شيئاً".
وقال هيكِل: "إن الدرس الوحيد الذي تعلمته الحكومة والشعب من مطالعة التاريخ هو أنهم لم يتعلموا من التاريخ شيئاً".
ويعلِّق المفكر الإسلامي (وحيد الدين خان) في كتابه "الإسلام يتحدى" على هذه الأقوال بعد أن أوردها ، فيقول:
"وهل قامت مسرحية العالم كلها لتنتهي إلى كارثة أليمة؟ إن فطرتنا تقول: لا .. فدواعي العدالة والإنصاف في الضمير الإنساني تقتضي عدم حدوث هذا الإمكان ، لا بد من يوم يميز بين الحق والباطل ، ولا بد للظالم والمظلوم أن يجنيا ثمارهما ، وهذا مطلب لا يمكن إقصاؤه من مقومات التاريخ ، كما لا يمكن إبعاده عن فطرة الإنسان .
إن هذا الفراغ الشاسع الذي يفصل ما بين الواقع والفطرة يقتضي ما يشغله . إن المسافة الهائلة بين ما يحدث وبين ما ينبغي أن يحدث تدل على أن مسرحاً آخر قد أعدَّ للحياة ، وأنه لا بدَّ من ظهوره ، فهذا الفراغ العظيم يدعو إلى تكميل الحياة ...
إذا لم تكن هناك قيامة فمن ذا الذي سوف يكسر رؤوس هؤلاء الطواغيت الطغاة؟".
والواقع أن هذه المشاعر مشاعر فطرية ونظرية لا تنكر ، وهي الهادية إلى تصور الحياة الأخرى لإقامة العدل الإلهي الأكمل .
من هذه النظرات تبين لنا أن مفتاح الدليل النظري لقضية الإيمان بالآخرة وما فيها من جزاء قول الله تعالى في سورة (المؤمنون/23 مصحف/74 نزول):
{أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لاَ تُرْجَعُونَ}.
وقد اهتدينا من هذا المنطلق الفكري الذي نبه عليه مفتاح هذا الدليل النظري إلى أن الإيمان بالآخرة ضرورة أخلاقية ، تقتضيها مفاهيم العدل الإلهي والفضل الإلهي .
ومعلوم أن العدل الإلهي والفضل الإلهي من الأسس المرتبطة جذرياً بعقيدة الإيمان بالله تعالى وأسمائه الحسنى وصفاته العظمى .
وهذا الدليل النظري القاضي بأن الإيمان باليوم الآخر ضرورة أخلاقية ، تقتضيها مفاهيم العدل والفضل الربانيين ، قد أعطانا القرآن الكريم عدة مفاتيح إليه ، فمن أحسن فهم هذه المفاتيح ، وأدرك العلاقة بينها وبين أبوابها النظرية وما ترشد إليه ، استطاع أن يجد الدليل العقلي الذي يدلّه على أن من القضايا الحتمية في الوجود قضية اليوم الآخر ، لإقامة الجزاء الحق ، وتحقيق صفتي العدل والفضل من صفات الله التي قامت عليها براهين العقل .
هذا إنما يظهر في مفاهيم من استطاع أن يتوصل إلى الإيمان بالله وصفاته بالأدلة العقلية والعلمية ، وتابع نظره مشوقاً لبلوغ الحقيقة ، ولم تقف في نفسه عوائق التعصب أو عوائق الرغبة بالفجور .
ولدى تتبُّع المفاتيح القرآنية لهذا الدليل النظري نستطيع أن نظفر بمجموعة من النصوص منها:
( أ ) قول الله تعالى في سورة (القلم/68 مصحف/2 نزول):
{أَفَنَجْعَلُ ٱلْمُسْلِمِينَ كَٱلْمُجْرِمِينَ * مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ}
(ب) وقول الله تعالى في سورة (الجاثية/45 مصحف/65 نزول):
{أَمْ حَسِبَ ٱلَّذِينَ ٱجْتَرَحُواْ ٱلسَّيِّئَاتِ أَن نَّجْعَلَهُمْ كَٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّالِحَاتِ سَوَآءً مَّحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَآءَ مَا يَحْكُمُونَ}
(ج) وقول الله تعالى في سورة (القيامة/75 مصحف/31 نزول):
أَيَحْسَبُ ٱلإِنسَانُ أَن يُتْرَكَ سُدًى * أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِّن مَّنِيٍّ يُمْنَىٰ * ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّىٰ * فَجَعَلَ مِنْهُ ٱلزَّوْجَيْنِ ٱلذَّكَرَ وَٱلأُنثَىٰ * أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَىٰ أَن يُحْيِـيَ ٱلْمَوْتَىٰ }.
( د ) وقول الله تعالى في سورة (ص/38 مصحف/38 نزول):
{وَمَا خَلَقْنَا ٱلسَّمَآءَ وَٱلأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لاَعِبِينَ * لَوْ أَرَدْنَآ أَن نَّتَّخِذَ لَهْواً لاَّتَّخَذْنَاهُ مِن لَّدُنَّآ إِن كُنَّا فَاعِلِينَ * بَلْ نَقْذِفُ بِٱلْحَقِّ عَلَى ٱلْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ وَلَكُمُ ٱلْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ }.
( و ) قول الله تعالى في سورة (الدخان/44 مصحف/64 نزول):
{إِنَّ هَـٰؤُلاَءِ لَيَقُولُونَ * إِنْ هِيَ إِلاَّ مَوْتَتُنَا ٱلأُوْلَىٰ وَمَا نَحْنُ بِمُنشَرِينَ * فَأْتُواْ بِآبَآئِنَا إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ * أَهُمْ خَيْرٌ أَمْ قَوْمُ تُبَّعٍ وَٱلَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ أَهْلَكْنَاهُمْ إِنَّهُمْ كَانُواْ مُجْرِمِينَ * وَمَا خَلَقْنَا ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لاَعِبِينَ * مَا خَلَقْنَاهُمَآ إِلاَّ بِٱلْحَق وَلَـٰكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ * إِنَّ يَوْمَ ٱلْفَصْلِ مِيقَاتُهُمْ أَجْمَعِينَ * يَوْمَ لاَ يُغْنِي مَوْلًى عَن مَّوْلًى شَيْئاً وَلاَ هُمْ يُنصَرُونَ * إِلاَّ مَن رَّحِمَ ٱللَّهُ إِنَّهُ هُوَ ٱلْعَزِيزُ ٱلرَّحِيمُ }
فهذه النصوص القرآنية مفاتيح تفتح أمام الفكر الإنساني الذي آمن بالله الخالق أبواب الدليل النظري ، الذي يجعل قضية الإيمان باليوم الآخر قضية حتمية في مدركات العقل الصرف بعد الإيمان بالله جلَّ وعلا .
وذلك لأن من آمن بالله الخالق عن طريق النظر الفكري في آثار صنعته في الكون وفي الأنفس ، فإنه لا بد أن يهتدي إلى كمال صفاته جلَّ وعلا ، ومنها علمه وقدرته وحكمته وعدله ، وهذه الصفات لا بد أن تهدي الباحث المؤمن بالله إلى أن الله لم يخلق هذا الكون وما فيه ليكون مسرحية من مسرحيات اللعب أو اللهو والعبث الباطل ، وإنما خلقه لغاية ، يعرف الإنسان في حدوده من هذه الغاية ، أن الله قد خلقه مزوداً بخصائصه ليمتحنه في ظروف هذه الحياة الدنيا ، وليبلو إرادته ، ولكل امتحان نتيجة وغاية ، وإذ لم تظهر هذه النتيجة والغاية في ظروف هذه الحياة الدنيا ، فلا بد أن يكون العليم القادر الحكيم العدل قد ادَّخر إظهار هذه النتيجة والغاية وتحقيق مقتضياتهما إلى حياة أخرى ، هذا ما توجبه نظرياً مقتضيات العقل السليم والفهم المستقيم .
فلولا ترتيب يوم الدين هذا في هذا الوجود ، لكان خلق هذا الكون وفق ظروفه الحالية مظهراً من مظاهر اللعب أو اللهو والعبث الباطل .
لكن الله العليم الحكيم القادر لا بد أن يكون منزهاً عن اللهو واللعب والعبث ، إن أعماله كلها هادفة لحكم عظيمة وغايات جليلة ، قد ندرك طرفاً منها ويخفى عنا منها الكثير .
ولذلك رأينا في النصوص القرآنية أن الله تبارك وتعالى قد نفى عن أفعاله اللهو واللعب ، فذلك لا يليق بكمال صفاته سبحانه .
فحينما يجعل الفيلسوف الملحد (برتراند رسل) هذا الكون كله مسرحية من مسرحيات اللهو والعبث ، فإنما يخالف في ذلك مقتضيات المنطق السليم والجدية المهيمنة على هذا الكون ، وقد جره إلى ذلك إنكاره وجود الخالق ، واعتباره الكون كله ظاهرة للحركة العشوائية التي قامت بها مادة الكون الأولى في سحيق الأزمان ، وأنتج ذلك عنده أنه ليس لهذا الكون غاية مرسومة ، ولا حكمة مقدَّرة ، وأنه عبث من عبث المادة التي لا حياة فيها . ونسي أنه لا شيء في هذا الكون المدروس متسم باللعب واللهو والعبث ، وأن كل شيء فيه خاضع لقوانين جادة صارمة ، ولسنن ثابتة قاسية .
ألم يخطر في ذهنه أن هذه الجدية الظاهرة في كل شيء من هذا الكون المدروس لا بد أن تلازمه وتصاحبه إلى ما وراء المجال المدروس منه؟
إن هذه الجدية الملاحظة في الكون لا تدع مجالاً لتصوُّر اللعب واللهو والعبث . وفي اللحظة التي تسقط فيها تصوُّرات اللعب واللهو والعبث عن هذا الكون تبدأ التصورات الصحيحة الباحثة عن الغايات التي تهدف إلهيا المقادير العظمى . وهذا هو مفتاح النور لإدراك الحقيقة الدينية التي لم يرد الملحدون أن يدركوها تعنتاً وعناداً واستكباراً ورغبة بالفجور ، ولذلك أنكروا الامتحان والجزاء واليوم الآخر ، بعد أن جحدوا الخالق جلَّ وعلا ، وربما جحدوه لأنهم أرادوا أن يبعدوا عن تصورهم قانون الامتحان والجزاء ، لينطلقوا في أعمالهم الفاجرة المجرمة دون خوف من النتائج الوخيمة ، والعواقب الوبيلة .
ومن هذا نستطيع أن نتبين السلسلة الفكرية الإيمانية ، فهي تسير على الوجه التالي:
1- دراسة الكون والحياة والإنسان تهدي إلى الإيمان بالخالق العظيم ، القادر العليم ، العدل الحكيم .
2- دراسة الغاية من الخلق التي تهدي إليها ملاحظة الكون ، وأحداثه الكبرى ، وقوانينه الصارمة ، وسننه الثابتة ، لا تدع مجالاً لتصور اللعب واللهو والعبث في أي حدث من أحداثه ، بل كل ما فيه جدّ لا هزل يصاحبه ، ولا عبث يخالطه .
3- دراسة العلاقة الأخلاقية والتكوينية بين الخالق الحكيم والإنسان المدرك المريد ، تهدي إلى أن الإنسان خلق في هذه الحياة للامتحان ، والامتحان يستلزم الجزاء في جدية قوانين الوجود وسننه الثابتة .
4- دراسة الظواهر الجزائية في نطاق هذا الكون المدروس المشاهد تدل على أن كمال مقتضيات العدل وكمال مقتضيات الحكمة لم يتحققا فيه ، وهذا يهدي – مع ملاحظة صفات الخالق العظيمة التي منها العدل والحكمة ومع ملاحظة قوانينه الصارمة وسننه الثابتة في الكون – إلى أن حياة أخرى قد رتبت في برنامج الوجود الكبير ، لإقامة العدل وكمال الحكمة فيها ، وفيها يتم تحقيق الصورة المثالية للجزاء الرباني .
بهذه الدراسة النظرية المتسلسلة على هذا الوجه ، والمدعَّمة بالأدلة العقلية ، المستندة إلى دراسة ظواهر هذا الكون المشاهد ، استطعنا أن نهتدي إلى ضرورة اليوم الآخر ، وإلى الإيمان به .
ولكن كيف يكون هذا اليوم الآخر وعلى أية صورة ؟
إن الدراسة النظرية لا تسمح لنا بالتحديد ، وذلك لأن الاحتمالات النظرية كثيرة جداً ، ولا سبيل إلى ترجيح بعضها على بعض ، ومن أجل ذلك كان لا بد لنا من أن نلتمس مفاهيم النصوص الدينية الثابتة لتخبرنا بذلك ، وليس لنا أن نتخيل صورة من عند أنفسنا أو نضيف صوراً من عند أنفسنا إلى ما جاءت به النصوص الدينية الثابتة في القرآن الكريم وفي أقوال الرسول صلوات الله عليه .