الإيمان بالآخرة مبدأ ضروري
لسعادة الجماعة الإنسانية
من كتاب :
صِرَاعُ مَعَ المَلاحِدَة حتى العظم
تأليف
عبد الرحمن حسن حبنّكة الميدان
إذا نظرنا إلى مشكلة السلوك الإنساني وجدنا أن سعادة الجماعة الإنسانية مرهونة بضوابط سلوك الإنسان ، وحينما نبحث عن الضوابط التي يمكن أن تضبط سلوكه نجدها ضوابط ضعيفة وناقصة ، إلا ضابطاً واحداً هو مراقبة الله والخوف من عقابه يوم الدين .
وبهذا التحليل تغدو قضية الإيمان باليوم الآخر ضرورة إنسانية لحل مشكلة الجنوح الإنساني ، ولمنح المجتمعات الإنسانية أفضل صورة ممكنة من السعادة الجماعية في ظروف هذه الحياة ، ولدفع الإنسان إلى فعل الخير والارتقاء في سلم الفضائل الفردية والجماعية .
قد يقول المعارضون: نستعيض عنها بالقانون وسلطة الحكم .
ولكن نقول لهم : فمن يضبط السلطة الحاكمة عن الجنوح وبيدها القوى المادية المسيطرة ، التي تمنحها كل الوسائل الصالحة للاستبداد وظلم العباد؟
إذا لم تكن هذه السلطة ملجمة بلجام الخوف من الله وجزائه العادل فإنها تفعل ما تهوى دون ضابط .
على أن الإسلام قد حاصر الجنوح بالإيمان والخوف من عقاب الله ، وبالشرائع وسلطة الحكم الإسلامي ، إضافة إلى الوسائل التربوية الأخرى .
وقد يقول المعارضون : نستعيض عن قضية الإيمان باليوم الآخر بالضمير الأخلاقي.
ولكن نقول لهم : وما هي وسيلتنا لإيجاد هذا الضمير الأخلاقي وقد دلتنا الملاحظة أن معظم الجماهير التي لا تؤمن بالله ولا باليوم الآخر لا تستطيع أن تكتسب ضميراً أخلاقياً مقوماً لسلوكها من منبع آخر ، لأنها تسيطر عليها حينئذ أنانياتها وشهواتها ، ولا يردعها عن الجنوح خوف ، ولا يجذبها إلى الاستقامة طمع ، وحينما تخشى من العقاب المادي الإنساني فإنها تستقيم استقامة الحذر من العدو ، وترصد الانحراف كراصد الصيد ، متى وجد الفرصة متاحة له انقضَّ على فريسته .
قد يقولون : إن النظرات الفلسفية ، والعاطفة الإنسانية ، والتربية الأخلاقية ، وحب الخير وفعل الخير ، كفيلة بتربية الضمير الأخلاقي .
ولكننا نقول لهم : لئن صلحت هذه الوسائل لتربية ضمير أخلاقي لدى فيلسوف عالي الفطرة ، له نظرات تأملية بعيدة عن غمرة الماديات والمطامع والأهواء والشهوات ، فإنها لن تصلح لتربية ضمير أخلاقي لدى ألوف مؤلَّفة من البشر ، لا يتحلَّون بخصائص ذلك الفيلسوف النادر .
ومعلوم أن الضوابط السلوكية لمنح البشرية أفضل مقدار من سعادة الحياة يجب أن تكون قادرة على ضبط الكثرة الكاثرة من الناس إلا من شذ ، لا أن تكون للنماذج النادرة فقط ،وتترك الأعداد العظمى من غير ضابط .
هذا بخلاف الضمير الأخلاقي الذي يغرسه في القلوب الإيمان بالله واليوم الآخر ، فإنه ضمير أخلاقي تكتسبه بسهولة جميع الجماهير المؤمنة إلا من شذ منها ، وهذا الشاذ لا يعدم بذوراً تردعه عن كبريات الجرائم .
أما غير المؤمنين بالله واليوم الآخر فالجرائم الصغرى والكبرى سواء عندهم ، متى تعلَّق هوى أحدهم بشيء واستطاع أن يفلت من العقاب المادي على أيدي الناس فإنه يفعله دون أن يجد أي وخز لجرائمه في ضميره ، وحينما يفعله يفعله بضراوة وشراسة لا توجدان عند أخبث الحيوانات الضارية الشرسة .
على أن الإسلام لم يهمل جانب تربية الضمير الأخلاقي بكل الوسائل الممكنة إضافة إلى الخوف من الله وعقابه ، ووعده ووعيده وما في اليوم الآخر من جزاء .
قد يقول المعارضون: وما علاقة هذه الضرورة الإنسانية لحل مشكلة الجنوح في السلوك بكون الآخرة حقيقة واقعة حتى يجب الإيمان بها عقلاً؟
وجوابنا على هذا السؤال سيكون مع الذين سلموا معنا بالقضية الأولى ، وهي قضية الإيمان بالله تعالى ، أما الملاحدة الذين لا يؤمنون بالله فإنهم لا يشعرون بموجب لضبط السلوك الإنساني أصلاً ، ولا يرون في أي سلوك جنوحاً ، ونظرتهم إلى الحياة تقتضي بأن القوة هي التي تحدد مفهوم السلوك ، فالقوة تستطيع أن تجعل الفضائل رذائل ، والرذائل فضائل ، والحق باطلاً ، والباطل حقاً ، وهكذا لا قيمة عندهم إلا للقوة .
أما كلامنا مع الذين سلموا بالقضية الأولى قضية الإيمان بالله تعالى فيكون على الوجه التالي:
هل يعقل في منطق التنظيم الحكيم أن يخلق الله جلَّ وعلا كائنات مدركة ذات غرائز وشهوات ، وذات مطامع ورغبات ، وذات أهواء لا حدود لها ، وذات لذات وآلام ، ويعطيها مع ذلك حرية الإرادة ، ويمنحها قدرة ما على تنفيذ ما تريد ، ثم يتركها تتخبط وتتقاتل ، وتتنافس وتتصارع ، وتتحاسد وتتباغض ، دون أن يجعل لها ضوابط تضبط سلوكها ، ودون أن يشعرها بأن جزاء عادلاً قد أعد لها ، ودون أن ينفذ فيها فعلاً جزاءه العادل ، ودون أن يشجع محسنيها بالثواب الكريم الذي يكون حقيقة واقعة ، لا وعداً كلامياً فقط؟
هذا غير معقول ، إن الخالق الحكيم لن يترك كائنات من هذا القبيل تفسد في الأرض دون أن يجعل لها نظاماً يشتمل على عناصر الجزاء الحكيم ، وهذا يهدي فعلاً إلى اعتبار اليوم الآخر ضرورة لضبط سلوك الإنسان في الحياة ، وهذا النظام لا بد من بيانه للناس حتى يعلموا مسؤوليتهم ويعرفوا مصيرهم ، ولذلك أرسل الله لهم الرسل ، فبلَّغوا الناس ما يجب عليهم من سلوك ، وما ينتظرهم من ثواب وعقاب ، بحسب أعمالهم في حياتهم ، وأن وراء هذه الحياة الأولى حياة أخرى يرجعون فيها إلى الله ، فيحاسبهم ويجازيهم ، وقد أعد للثواب جنة خالدة ، وأعد للعقاب ناراً حامية وعذاباً أليماً.