ما وعاه ابن صاحب البستان
كتبه: وولتر ادوارد
أخصائي علم الوراثة
حاصل على درجة الدكتواره من جامعة كاليفورنيا – أستاذ الوراثة بجامعة كاليفورنيا
بولس أنجلوس – مدير البحوث بحدائق ديسكانسو بكاليفورنيا – متخصص في تربية الزينة
وبخاصة الورد.
اذا سألني سائل: (لماذا تؤمن بالله)؟ قد أقول له بصراحة وأمانة: (هكذا علمني
والداي)، فتلك هي الطريقة المعتادة التي يرث بها الناس ايمانهم بالله. ولكنني اعود
فأذكر ان والدي قد علماني كذلك ان اعتقد في سانتاكلوز وايستربنيز، وتحت تأثير تلك
الأحاجي وقصص الطفولة العديدة الخرافية الجذابة سرعان ما وجدت انني ادرك اكثر
واكثر حكمة الخالق وقدرته في هذا العالم.
وكثيرا ما لفت نظري، بحكم بنوتي لأحد اصحاب البساتين، ما يحدث لاشجار الفواكه
المختلفة كأشجار التفاح والبرقوق والكمثري في منطقة شرقي واشنغتون من تكييف جزئي
لتلائم الجو عندما تنخفض درجة حرارة الهواء إلى 20 درجة تحت الصفر، فتبدو هذه
الاشجار هامدة مجردة من الحياة طيلة فصل الشتاء، حتى اذا جاءها الربيع اهتزت وربت
وأخرجت من الازهار والثمار ما يأخذ جماله بالألباب، ولما كانت هذه الاشجار لم
تتأقلم تماما في بلادنا فان تخر تساقط الصقيع كثيرا ما يقتل البراعم ويقضي على
المحصول، ويؤثر على جميع سكان الوادي تاثيرا سيئا بما يسببه من أزمة اقتصادية.
وكثيرا من كنت أسائل نفسي كيف يرضى العدل الالهي بهذه الخسارة الفادحة في محصولنا؟
ولكنني أدركت الجواب بعد قليل، فليس الخطأ من جانب الله سبحانه وانما من أنفسنا،
وذلك لاننا نحاول ان نزرع في بلادنا انواعا من النباتات غير متلائمة مع الظروف
الجوية عندنا. والمشاهد ان هذه النباتات لا يصيبها في مواطنها الأصلية هذا النوع
من التلف، فهي تتحمل برد الشتاء، وتزهر بعد انتهائه عندما يكون الخطر الذي يتهددها
قد زال، وبرغم ان جميع هذه الانواع مما ينمو في المناطق المعتدل، فان لكل صنف من
أصنافها ظروفه الخاصة التي تلائمه، وهو لا يمكن ان يتأقلم في مكان آخر الا بعد
أجيال تنقضي في عمليات الانتقاء والتربية.
ومن ذلك نرى ان جميع النباتات والحيوانات لم تخلق لكي تعيش في بيئة ثابتة
محددة الأوصاف، بل ان لديها من الاستعدادات ما يجعلها قادرة على مسايرة الأجواء
والظروف الاخرى في حالة الضرورة والاضطرار. وتعنى دراسة الوراثة بمعرفة مدى
استعداد الحيوانات والنباتات المختلفة لهذه الملاءمة. وقد شغفت بهذا النوع من
الدراسة بسبب ما قمت به منذ صباي من تجارب على زراعة بادرات البرقوق ودراسة
التحولات التي تطرأ عليها، كما كان عندي شغف بدراسة الحشرات المختلفة وبخاصة ما
يقوم منها بعملية التلقيح، مثل النحل والنمل والذباب وغيرها. ولقد كنت أتساءل
دائما في قرارة نفسي كيف تم هذا التوافق العجيب بين الازهار والحشرات التي تقوم
بتلقيحها؟ وهيأت لي قراءة ذلك الكتاب الرائع الذي ألفه هنري فابر عن عجائب الغرائز
في الحشرات وحياتها الاجتماعية المعقدة دليلا على ما يسود هذا الكون من نظام محكم
وتدبير عظيم.
وقد كان يخيل إلى كانما توجد قوة أخرى في هذا الكون تعمل في اتجاه عكسي وتمنع – او
على الأقل تحول – دون استفادة الانسان فائدة كاملة من النباتات والحيوانات. فهنالك
مثلا كثير من النمل وقليل من النحل مما ينجم عنه ضعف في محصولاتنا، كما نلاحظ ان
التربة يتناقض خصبها تدريجيا ومع ذلك فانها تنتج كثيرا من العشب القوي. فلماذا
يحدث كل ذلك؟ ان الطبيعة لم تعطنا الإجابة عن هذا السؤال، ولكني عثرت على هذه
الاجابة في الكتاب المقدس: انه غضب الله ينزل بالتربة وبالطبيعة بسبب اخطاء الناس،
ومع ذلك فلا يزال هنالك من الخير في كثير من المخلوقات ما يسمح بظهور قدرة الله
العجيبة وحكمته البالغة. وعلينا نحن في حدود طاقتنا ان نساعد على عودة الأرض إلى
حالتها الاولى من الجمال والكمال.
هكذا كانت فلسفتي عندما بدأت دراستي الجامعية ودرست نظرية التطور المادي، وهي
النظرية الوحيدة التي ينظر اليها البعض على انها يمكن ان تغني عن الاعتقاد في وجود
خالق او مدبر لهذا الكون. وقد مرت بي سنوات عديدة من الصراع العقلي بيني وبين نفسي
من جهة، وبيني وبين بعض الطلبة المتخرجين في الكلية من جهة أخرى، وقد اتضح لي كثير
من الحقائق، فعلم الوراثة مثلا لم يقدم لنا دليلا على صحة الغرضين الأساسيين
اللذين أقام عليهما تشارلز داروين نظرية في نشأة الأنواع وهما:
1- ان العضويات الصغيرة في كل جيل من الأجيال تنزع دائما آلي ان تختلف اختلافات
طفيفة عن آبائها في جميع الاتجاهات الممكنة.
2- ان التغيرات المفيدة تورث في الأجيال التالية وتتراكم نتائجها حتى ينتج عنها
تغيرات جسمية.
والواقع – كما يذكر ذلك تنكل بالاشتراك
معي في كتابنا (العلم الحديث والمسيحية) – ان اقصى ما يمكن ان يتم من التغيرات في
النباتات والحيوانات يمكن ان يتحقق سريعا عن طريقي الانتقاء والتربية. ويؤدي
التلقيح الذاتي في النباتات او زواج الأقارب في الحيوانات، آلي انتاج أفراد ضعيفة
آلي حد كبير. والسلالات الناتجة في هذه الاحوال تكون نقية آلي حد كبير ولا تتغير
في جميع الاتجاهات كما ذكر داروين الا عندما تصيبها بعض الطفرات، وهي قليل الحدوث.
وتعتبر هذه الطفرات على قلتها الاساس المادي الذي يبني عليه علماء التطور تفسيرهم
لظاهرة التطور. ولكن هل يمكن ان تكون الطفرات حقيقة وسيلة للتطور؟ ان الدراسة
الطويلة المتصلة لهذه الطفرات في كثير من الكائنات وبخاصة في ذبابة الفاكهة
المسماة دروسوفيلا ميلانوجستر تدل على ان الغالبية العظمى من الطفرات تكون من
النوع المميت. اما الانواع غير المميتة منها فان التغيرات المصاحبة لها تكون من
النوع الذي يؤدي آلي التشويه، او على الأقل من النوع المتعادل الذي يحدث تأثيرات
فسيولوجية تضعف من قوة الفرد، فمن الصعب اذن ان يؤدي تجمع هذه الطفرات الوراثية
آلي التغيرات اللازمة لنشأة أنواع جديدة تعتبر أكثر تقدما ورقيا من أسلافها.
وقد تؤدي الطفرة في بعض الحالات النادرة آلي تحسين صفة من
الصفات، كما يحدث في جناح الدروسوفيلا. ولكن اجتماع هذه الصفة مع بعض الصفات
الاخرى التي تطرأ على الجناح، يؤدي آلي تكوين حشرات أقصر عمرا وأقل قدرة على
الحياة. ولكن دعنا نسلم جدلا بحدوث طفرات نادرة تصحبها تحسينات تبلغ 1% فكم تحتاج
مثل هذه الطفرات من الأجيال لكي تتراكم ويظهر أثرها وينتج عنها نوع جديد؟ لقد وضح
(باتو) في كتابه (التحليل الرياضي لنظرية التطور)، ان تعميم صفة من الصفات عن طريق
الطفرة في سلالة من السلالات، لا يمكن ان يستغرق اقل من مليون جيل من الأجيال
المتتابعة. وحتى لو سلمنا بقدم الأحقاب الجيولوجية كما يقدرها الجيولوجيون، فمن
الصعب ان نتصور كيف ان حيوانا حديثا نسبيا مثل الحصان قد نشأ من سلفة كان عدد
الأصابع في قدمه خمسا في الفترة من العصر الحجري (الأيوسيني) الحديث حتى الان.
واخيرا فان دراسة الكروموسومات المعقدة التي تحمل عوامل الوراثة تبين كثيرا من
الاختلافات في تركيبها وتنظيمها حتى بين الانواع المتقاربة. ويقول دوبزانسكي في
كتابة (الوراثة ونشأة الأنواع) ان التزواج بين الكروموسومات وما يصحبه من عمليات
قطع ووصل في أجزائها، يؤدي آلي اختلافها بعضها عن بعض وهو اختلاف ضروري لاستمرار
حياتها وأدائها لوظائفها الحيوية، فقد ثبت انه اذا كانت الكروموسومات متشابهة كل
التشابة، فانها تعجز عن القيام بعملية الازدواج. فكيف تحدث هذه الاختلافات
المستمرة في اشكال الكروموسومات وفي طريقة تنظيمها؟
ان المقام لا يتسع لضرب أمثلة عديدة اخرى لاثبات ان نظرية التطور المادي لا تستطيع
ان تفسر لنا تلك الاختلافات العديدة التي نشاهدها في عالم الأحياء. انها جميعا
تشير آلي وجود خالق حكيم هو الذي جعل هذه الكائنات الحية قادرة على ان تتحمل ظروفا
غير الظروف التي نشأت في ظلها، وعلى ان تتلاءم مع هذه الظروف.ومع ذلك فان دراسة
الطبيعة لا تكشف لنا الا عن قدرة الخالق ونظامه المحكم، رغم انها لا تستطيع ان
تكشف لنا عن حكمته ومقصده. وكما يقول بول: (اننا نبصر اليوم الحقائق من ورء حجاب،
وغدا عندما يكشف عنها الغطاء سوف نراها سافرة. اننا لا نعلم اليوم الا قليلا، وغدا
ينكشف لنا علم ما لم نكن نعلم).