مقال: (الإسلامُ صالحٌ لكلِّ مكانٍ وزمانٍ), كتبه الأستاذ: (علي غيث), متخصص بالدراسات الإسلامية المعاصرة, والمذاهب الفكرية.
لقد منَّ الله I على البشرية بأعظم دين أنزله, ألا وهو دين الإسلام, فقال الله Y: ﴿إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ وَمَنْ يَكْفُرْ بِآيَاتِ اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ﴾, (آل عمران:19). وقال Y: ﴿وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ﴾, (آل عمران: 85). وقد اصطفى لرسالة الإسلام سيد الأولين والآخرين, رسول الله, محمدًا e, بل وجاءت الرسل تبشر بنوره وخيره, واقرأوا_ إن شئتم _قول الله Y: ﴿وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ * فَمَنْ تَوَلَّى بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ﴾, (آل عمران:82). يقول علي_ كرم الله وجهه _:" لم يبعث الله تعالى نبياً, آدم فمن بعده إلا أخذ عليه العهد في محمد e, لئن بعث وهو حي ليؤمنن به ولينصرنه, ويأمره فيأخذ العهد على قومه", ثم تلا الآية. وقد قال الله Y مخاطبًا أهل الكتاب: ﴿يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيرًا مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ * يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾, (المائدة: 16).
وفي هذه النبذة الطيبة المباركة سأبين_ بإذن الله U _صلاحية الإسلام لكلِّ مكان وزمان. والإسلام صالح لكلِّ مكان وزمان بالأمور الآتية:
1. لعلَّ من أبرز الأمور التي جعلت مبدأ الإسلام صالحًا لكلِّ مكان وزمان أنه من الله Y, فالله I هو خالق الإنسان, وهو الذي يعلم ما يصلح له أحواله, قال الله Y: ﴿أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ﴾, (تبارك: 14). وقال: ﴿وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ﴾, (ق: 16). وبما أنَّ تشريعات الإسلام من الله Y فهي التي تأخذ بيديه للدعة ورغد العيش, وتجعل حياته مليئةً بالهناءة والسرور, والسعادة والحبور. والله Y لما كان خالقًا للإنسان, لم يجعل منه محل تجربة كما هي الحال في النظام الرأسمالي والنظام الاشتراكي الذي يجعل الإنسان كالفئران, محلاً للتجربة؛ ذلك أنَّ الله يعلم ما يصلح حال الإنسان, فليس بحاجة لإجراء تجارب عليه حتى يصل لما يصلحه, بل كل ما كان من عند الله Y فهو صالح للإنسان.
2. ومن الأمور التي جعلت مبدأ الإسلام صالحًا لكل مكان وزمان أنَّ تشريعاته جاءت لتعالج مشاكل الإنسان بوصفه إنسانًا, فعندما تأتي الأحكام في مسألة اقتصادية فهي مشكلة إنسانية, وعندما تأتي الأحكام في مسألة اجتماعية فهي مشكلة إنسانية, وعندما تأتي الأحكام في مسألة تخص الحكم فهي مشكلة إنسانية. وهكذا, هلمَّ جرًا. والإنسان هو هو منذ آدم u حتى يوم القيامة, فالإنسان يتكون من غرائز وحاجات عضوية هي هي لا تتخلف؛ فهو يتكون من ثلاث غرائز, ألا وهي: غريزة التدين, وغريزة النوع, وغريزة حب البقاء. إضافةً إلى الحاجات العضوية من جوع وعطش ونوم...إلخ. وهو كذلك في كلِّ مكان, فليس الإنسان في إفريقيا يختلف عنه في آسيا, وليس الأسكيمو في القطبين يختلفون عن أهل المشرق والمغرب, وبما أنَّ التشريعات مرتبطة بالإنسان من حيث هو, والإنسان هو هو في كلِّ مكان وزمان, فالإسلام صالح لكلِّ مكان وزمان من هذا الوجه كذلك.
3. ومن الأمور التي جعلت مبدأ الإسلام صالحًا لكل مكان وزمان أنَّ تشريعاته جميعًا كاملة متكاملة في علاقات الإنسان الثلاث: علاقة الإنسان مع ربه, وعلاقة الإنسان مع غيره, وعلاقة الإنسان مع نفسه. قال الله Y: ﴿الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا﴾, (المائدة: 3). جاء رجلٌ من اليهود إلى عمر بن الخطاب، فقال:" يا أَميرَ المؤمنين، آيةٌ في كتابكم تقرءونها، لو علينا نزَلتْ- مَعْشَرَ اليهود -لاتخذنا ذلك اليومَ عيدا، قال: فأَيُّ آية؟ قال: ﴿الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا﴾، فقال عمر: إِنِّي لأعْلَمُ اليومَ الذي نزَلتْ فيه، والمكانَ الذي نزلت فيه: نزلت على رسول الله e بعرفات، في يوم جمعةٍ", رواه البخاري ومسلم. عن سلمان الفارسي, قال:" قِيلَ لَهُ: قَدْ عَلَّمَكُمْ نَبِيُّكُمْ e كُلَّ شَىْءٍ حَتَّى الْخِرَاءَةَ". فقال سلمان:" فَقَالَ: أَجَلْ, لَقَدْ نَهَانَا أَنْ نَسْتَقْبِلَ الْقِبْلَةَ لِغَائِطٍ أَوْ بَوْلٍ, أَوْ أَنْ نَسْتَنْجِىَ بِالْيَمِينِ أَوْ أَنْ نَسْتَنْجِىَ بِأَقَلَّ مِنْ ثَلاَثَةِ أَحْجَارٍ, أَوْ أَنْ نَسْتَنْجِىَ بِرَجِيعٍ أَوْ بِعَظْمٍ", رواه مسلم. فهذه شهادة من المشركين على كمال رسالة الإسلام:" قَدْ عَلَّمَكُمْ نَبِيُّكُمْ eكُلَّ شَىْءٍ حَتَّى الْخِرَاءَةَ", فالحمد لله على هذه النعمة.
يقول القاضي تقي الدين النبهاني:" بقيت مسألة، وهي: هل الشريعة الإسلامية حاوية لأحكام الوقائع الماضية كلها والمشاكل الجارية جميعها والحوادث التي يمكن أن تحدث بأكلمها؟ والجواب على ذلك، هو أنه لم تقع واقعة ولا تطرأ مشكلة ولا تحدث حادثة إلاّ ولها محل حكم. فقد أحاطت الشريعة الإسلامية بجميع أفعال الإنسان إحاطة تامة شاملة، فلم يقع شيء في الماضي، ولا يعترضه شيء في الحاضر، ولا يحدث له شيء في المستقبل إلاّ ولكل شيء من ذلك حكم في الشريعة، قال الله تعالى: ﴿وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ﴾، وقال: ﴿الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي﴾، فالشريعة لم تُهمِل شيئاً من أفعال العباد مهما كان، فهي إما أن تنصب دليلاً له بنص من القرآن والحديث، وإما أن تضع أمارة في القرآن والحديث تنبِّه المكلَّف على مقصدها فيه وعلى الباعث على تشريعه، لأجل أن ينطبق على كل ما فيه تلك الأمارة أو هذا الباعث. ولا يمكن شرعاً أن يوجد فعل للعبد ليس له دليل أو أمارة تدل على حكم، لعموم قوله: ﴿تبياناً لكل شيء﴾، وللنص الصريح بأن الله قد أكمل هذا الدين", (الشخصية الإسلامية: (أصول الفقه), ج: 3, ص: 21_22).
وعلاقات الإنسان الثلاث هي: علاقة الإنسان مع ربه التي تتمثل بأحكام العقائد والعبادات, وعلاقة الإنسان مع غيره التي تتمثل بأحكام العقوبات والمعاملات, وعلاقة الإنسان مع نفسه التي تتمثل بالأخلاق والملبوسات والمأكولات والمشروبات. والإسلام قد أتى بأحكام شرعية تنظم هذه العلاقات كافَّةً. ففي الإسلام جاء (نظام الحكم) وجاء (النظام الاقتصادي) وجاء (النظام الاجتماعي) وجاء (نظام العقوبات) وجاءت أحكام العبادات والعقائد وكلُّ ما يخطر على قلب البشر من أنظمة, وهي أنظمة ربانية لا تدانيها أنظمة, ولم توجد بغيرها من الملل, وأتحدى اليهود والمسيحيين أن يثبتوا صلاح شريعتهم للتطبيق, وسأبدأ مع من يقبل التحدي بـ(النظام الاقتصادي) حتى أبين له عوار شريعته التي يمنِّي بها. والله الموفق.
ومسك الختام هو: إنَّ أحكام الإسلام هي أحكام رأفة ورحمة, كيف لا والله Y يقول: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ﴾, (الأنبياء: 107). فاتباع هدي محمد, رسول الله e فيه الخير كلُّ الخير, وصدق الله Y إذ يقول: ﴿فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى * وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا﴾, (طه: 124). وكما قلنا آنفًا, فأحكام الإسلام منبثقة عن مبدأ الإسلام العظيم, وثمَّة قواعد لا بدَّ من الإيماءة إليها قبل الولوج في درء الشبه الوهمية الواهية التي تثار حول أحكام الإسلام وصلاحيتها, ولا جرم أنَّ شبه القوم ناتجة عن أمرين: الجهل, والحقد. وتتمثل القواعد التي ينظر للفقه الإسلامي بحسبها بالآتي:
1. الحكم الشرعي ينزل على الواقع, والواقع هو مناط الحكم, أي إنَّ الحكم الشرعي مرتبط ارتباطًا ذا عروة وثقى بالواقع الذي أتى ليعالجه. إذن, لا بدَّ من إدراك حقيقة الواقع قبل تبيان الحكم الشرعي الذي يتعلق به.
2. أحكام الإسلام هي للتطبيق, فلا ينبغي لأحد أن يأتي بافتراضات؛ لمعرفة الحكم الشرعي بها, فالإسلام قبل أن يصبح الاستنساخ أمرًا واقعًا لا يلتفت إليه, ولا يلجأ لتبيان الحكم الشرعي به, ولكنَّه عندما أصبح حقيقة واقعةً رأينا أحد علماء المسلمين يجتهد في مسألة الاستنساخ, ويبين الحكم الشرعي بها, وهو العلامة عبد القديم زلوم. وهكذا هلمَّ جرًّا.
3. الحكم الشرعي إمَّا أن يأتي صريحًا في نصِّ القرآن والسنة, أو أن يوجد أمارة في الكتاب والسنة تدل عليه, وتنبه. فتأمَّل.
4. ثمَّة قاعدة عريضة في الفقه الإسلامي, ألا وهي: ﴿لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا﴾. ويقول الله Y: ﴿يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ﴾, (البقرة: 185). ويقول Y: ﴿فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ﴾, (التغابن: 16). و ومما رواه أبو هريرة t: خَطَبَنَا رَسُولُ اللَّهِ e فَقَالَ:« أَيُّهَا النَّاسُ, قَدْ فَرَضَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ الْحَجَّ فَحُجُّوا». فَقَالَ رَجُلٌ: أَكُلَّ عَامٍ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ فَسَكَتَ حَتَّى قَالَهَا ثَلاَثًا. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ e:« لَوْ قُلْتُ: نَعَمْ, لَوَجَبَتْ, وَلَمَا اسْتَطَعْتُمْ- ثُمَّ قَالَ -ذَرُونِى مَا تَرَكْتُكُمْ؛ فَإِنَّمَا هَلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ بِكَثْرَةِ سُؤَالِهِمْ وَاخْتِلاَفِهِمْ عَلَى أَنْبِيَائِهِمْ, فَإِذَا أَمَرْتُكُمْ بِشَىْءٍ فَأْتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَإِذَا نَهَيْتُكُمْ عَنْ شَىْءٍ فَدَعُوهُ», رواه بخاري ومسلم. فالمطلوب من المرء المسلم أن يتقي الله بقدر ما يستطيع للتقوى سبيلا. والله الموفق.
إيميل الكاتب للمراسلة: alhady_aligat@yahoo.com