مقال: (القرآنُ كلامُ اللهِ كلُّهُ ذُو معنىً), كتبه الأستاذ: (علي غيث), متخصص بالدراسات الإسلامية المعاصرة, والمذاهب الفكرية.
يقول الله Y: ﴿الم﴾, (البقرة: 1), واستفساري هو: هل يخاطب الله عباده بطلاسم لا يفهمونها؟
الجواب لهذا الاستفسار يكون شقين: شقًّا عن منطوق السؤال, وشقًّا عن مفهوم السؤال. فمنطوق السؤال يقضي الجواب عن هذا السؤال: هل يوجد في القرآن شيء لا يفهم معناه؟ ومفهوم السؤال يقضي الجواب عن هذا السؤال: ما معنى ﴿الم﴾؟ وبالله التوفيق.
· هل يوجد في القرآن شيء لا يفهم معناه؟
الجواب:
هذه مسألة خلافية بين المسلمين, وأصل هذه المسألة هو قول الله Y: ﴿وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا﴾, (آل عمران: 7). فاختلف في الواو: أهي استئنافية أم عاطفة في قوله: ﴿إِلَّا اللَّهُ (وَ) الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ﴾؟ فحجة من جعلها استئنافية هو قول الله: ﴿يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا﴾؛ لأنه اعتبر الحال يشمل المعطوف والمعطوف عليه, فإذا اعتبرنا ﴿يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا﴾ جملة حالية فإنه لا يليق بالله أن يكون حاله ﴿يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا﴾؛ فدل على أن الواو استئنافية, والجملة في محل رفع خبر (الراسخون). والحقُّ أن رأيهم ضعيف لما يلي:
ü لغةً, يجوز أن يكون الحال مقتصرًا على المعطوف عليه أو على المعطوف بقرينة تدل على ذلك, وهذا في كتاب الله, ففي قول الله Y: ﴿وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً﴾, (الأنبياء: 72). فنافلة هي حال ليعقوب من دون إسحق, والقرينة هي التي دلت على ذلك. إذن, لا مانع من أن يقتصر الحال على المعطوف أو المعطوف عليه, والقرينة هي التي تبين هذا القصر. وعليه, فكونه لا يليق بالله أن يكون حاله: ﴿يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا﴾, فهذه قرينة تقصر الحال على الراسخين في العلم من دون الله, وليست قرينة تجعل الواو استئنافية. فتأمل.
ü لقد جاء القرآن بوصف زائد للعلماء, ألا وهو: (الرسوخ في العلم). وهذا في لغة العرب يكون لمناسبة الحكم المتعلق به, وهذا سافر. فإذا كان الرسوخ في العلم متعلقًا بـ﴿يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا﴾, فهو ليس مناسبًا؛ لأن غير العلماء يقولون كذلك تجاه المتشابه من الآي الكريم. ولكنَّنا إن جعلنا الرسوخ في العلم متعلقًا بمعرفة تأويل المتشابه من الآي الكريم, فهو مناسب لذلك؛ لأنَّه حقًّا يحتاج تأويل المتشابه إلى رسوخ في العلم, وليس لمجرد العلم. فإن كانت الزيادة متعلقة بمعرفة تأويل المتشابه فهو متفق مع أساليب العرب في كلامهم, وإن كانت الزيادة متعلقة بقول: ﴿يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا﴾, فهو عبث, ولا يتفق مع أساليب العرب في كلامهم. والقرآن منزَّه عن العبث والزيادات التي لا قيمة لها, فهو ﴿كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ﴾, (هود: 1). والآيات المحكمة لا تشتمل على زيادات تتعلق بحكم ليست مناسبة له. إذن, الرسوخ في العلم زيادة مناسبة لمعرفة تأويل المتشابه من آي الذكر الحكيم. فتأمل.
ü كون القرآن يشتمل على آيات لا يعرف تأويلها_ ولو بغلبة الظن _يخرجه عن كونه بيانا للناس, ويتناقض مع قول الله Y: ﴿هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ﴾, (آل عمران: 138). وقوله: ﴿وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ﴾, (النحل: 44). فوجود آيات لا يفهم معناها يخرج القرآن عن كونه بيانًا للناس, وعن كون الذكر مبينا للقرآن. فتأمَّل.
ü ووجود آيات لا يفهم معناها يتصادم مع قول الله Y: ﴿اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ﴾, (الأعراف: 3). فلا يستقيم الاتباع مع الإبهام والغموض, فالذي يعجز عن فهم آية لا يستطيع اتباع ما فيها, فإن كان ذلك كذلك, فإنَّ الله Y يقول: ﴿لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا﴾, (البقرة: 286). فكيف يكلفنا الله بأمر يُعَدُّ من تكليف مالا يستطاع؟! إذن, لم يبق إلا أن نقول: لا يوجد شيء في كتاب الله إلا وله معنى قطعيًّا (محكمًا) كان أم ظنِّيًّا (متشابهًا).
ü وأخيرًا, فمخاطبة الله لعباده بآيات لا يفهمونها هو عبث, والله I منزه عن العبث, ولا يليق به ذلك. والله الموفق.
ü إذن: هل يوجد في القرآن شيء لا يفهم معناه؟ لا, غير موجود.
· ما معنى ﴿الم﴾؟
الجواب:
هذه آية متشابهة, أي تحتاج إلى رسوخ في العلم كي يترجح لنا رأي فيها؛ لأن المتشابه لا يعلمه إلا اثنان: الله, والراسخون في العلم. لذلك, ليس غريبًا أو عجيبًا أن نقرأ لبعض المفسرين قولهم:" اللهُ أَعْلَمُ بِمُرَادِهِ"؛ لأنهم وجدوا في أنفسهم قصورًا في العلم جعلهم عاجزين عن ترجيح رأي فيها؛ لأنها آية تحتاج إلى رسوخ في العلم, وليس لمجرد العلم. ولكنَّنا نرفض قول من قال:" إِنَّها مِمَّا استَأْثَرَ اللهُ بِعِلْمِهِ"؛ لأنه لا شيء في القرآن قد استأثر الله بعلمه, أي لم يخاطبنا الله بشيء لا نستطيع فهمه وإن كنا لا نقطع بفهمه, بل نختار ما يترجح لدينا بغلبة الظن. والله الموفق.
وبعد الرجوع إلى أقوال أهل العلم حول هذه الآية وما شاكلها, ترجح لدينا الآتي:
ألا إنَّ ﴿الم﴾ اسم لسورة البقرة, فنقول: (سورة الم البقرة), أو نقول: (سورة الم ذلك الكتاب). فمثلا يقول أبو إياس:" وفي صلاة الصبح يوم الجمعة على الخصوص ورد أن الرسول e كان يقرأُ في الركعة الأولى سورة ألم تنزيل السجدة، ويقرأ في الركعة الثانية سورة الإنسان، فعن أبي هريرة t: «أن رسول الله e كان يقرأ في صلاة الصبح يوم الجمعة ألم تنزيل وهل أتى», رواه النَّسائي والبخاري ومسلم". فهذه التسمية كانت شائعة بين الصحابة y, ونحوها: سورة ق والقرآن المجيد, وسورة ص والقرآن ذي الذكر...إلخ. وتلفظ هكذا: (ألِفْ. لامْ. مِيمْ). ومن أمثال هذه التسمية في كلام العرب اسم: (تأبط شراً) و(وذرّى حباً).
و﴿الم﴾ في محل رفع مبتدأ, وخبرها قول الله Y: ﴿ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ﴾. والفائدة التي تحملها هذه الأسماء تكمن في الآتي:
أ- من عادة العرب تنبيه السامع قبل الحديث عن أمر عظيم؛ لئلا يفوت من ألقي إليه الكلام شيء مما أراد أن يلقيه إليه؛ لذلك وجدنا أدوات النداء: (أَ - أَيْ - يَا - آ - آي - أَيَا - هَيَا - وَا), ووجدنا أدوات التحضيض: (لولا ولوما وهلا وألا), ووجدنا أدوات التنبيه: (ها، ألا، أما). وما هذه الأدوات إلا للفت الأنظار واسترعاء الحفيظة حتى يكون السامع في أهبة الاستعداد لتلقي الأمر العظيم الذي أراد المتكلم أن يُنَبِّهَ له سامعيه, ويشدهم إليه. فهذه الأحرف تقوم بمهمة التنبيه, فعندما يسمع المشركون (ألِفْ. لامْ. مِيمْ) لا جرم أنَّها تلفت الأنظار, وتسترعي الحفيظة, فإذا ما تهيَّأ السامع بعد سماع هذه الحروف للاستماع, وقد أصاغ سمعه وشدَّ تركيزه سمع الحديث عن القرآن العظيم, نحو قول الله Y: ﴿الم * ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ﴾, (البقرة: 2). هذا في الوضع الطبيعي, فما بالكم والمشركون يتواصون فيما بينهم بالابتعاد عن سماع القرآن وتشويه نقائه؟! يقول الله Y: ﴿وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ﴾, (فصلت: 26). قال ابن عباس t:" قَالَ أَبُو جَهْلٍ: إِذَا قَرَأَ مُحَمَّدٌ القُرْآنَ فَصِيحُوا فِي وَجْهِهِ حَتَّى لاَ يَدْرِي مَا يَقُولُ". وقال زعماء الكفر لأتباعهم: لا تسمعوا لهذا القرآن الذى يقرأه محمد e وأصحابه، ولا تنصتوا إليه، بل ابتعدوا عن قارئيه، والغوا فيه, أي: وأظهروا عند قراءته أصواتكم باللغو من القول، كالتشويش على القارئ، والتخليط عليه فى قراءته بالتصفيق وبرفع الصوت بالخرافات والهذيان. ﴿لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ﴾, أي: لعلكم بعملكم هذا تتغلبون على المسلمين، وتجعلونهم ينصرفون عن قراءة القرآن. فكان لا بدَّ من كلِّ شيء من شأنه لفت الأنظار واسترعاء الحفيظة في ظلِّ هذا التشويش النكد من أئمة الكفر, فكانت هذه الحروف المتقطعة خير وسيلة لتأدية هذه المهمة. على أنَّ القرآن نفسه قد حثَّ على الإنصات لسماع الذكر الحكيم, يقول الله Y: ﴿وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ﴾, (الأعراف: 204). فكانت هذه الأحرف حاثًّا على هذا الأمر. والله الموفق.
ب- في ﴿الم﴾ إشارة إلى التحدِّي, فالقرآن هو الذي تحدى الله به أهل العناد والكبر, فقال: ﴿قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا﴾, (الإسراء: 88). وقال: ﴿أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ * فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللَّهِ وَأَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ﴾, (هود: 14). وقال: ﴿وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ * فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ﴾, (البقرة: 24). ففي خضمِّ هذا التحدي أتت هذه الحروف لتقول لهم: القرآن الذي عجزتم عن مجاراته, ولم تدنُ منه بلاغتكم وفصاحتكم مركبٌّ من هذه الحروف, فعجزكم عن الإتيان بمثل القرآن مع أنه من أحرف نطقكم دليل خريت, وبرهان ساطع, وحجة دامغة, وسلطان مبين على صدق نبوة محمد e؛ لأن المرء مهما بلغت عبقريته وسمت لا يستطيع إعجاز أهل عصره وخاصة بأمر كان لديهم هو الصناعة والبضاعة، وهم أهل الفصاحة والبيان واللسان والبلاغة. فإن كان ذلك كذلك, فالقرآن كما قال الله عنه: ﴿إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ﴾, (الإسراء: 9). والله الموفق.
ت- في ﴿الم﴾ تبكيت للمشركين وتقريع لهم؛ ذلك أنَّ الأمَّيَّ ينطق هذه الأحرف هكذا: (آ_إلْ_إمْ), ولا ينطقها هكذا: (ألِفْ. لامْ. مِيمْ). ومحمد رسول الله e أمَّيٌّ, وهذا لا يخفى على أهل قريش وقد نشأ بينهم. ففي نطقه لهذه الأحرف على طراز خاصٍّ زيادة في التبكيت لهم, وإقامة الحجة عليهم, والتحدي لهم. وهذه حقيقة أدركها المستشرقون ومن حذا حذوهم واقتفى أثرهم؛ فأخذوا يطعنون في هذه الأمية, ويجعلون معناها أنَّها الأمية الدينية استنادًا إلى قول الله Y: ﴿مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ﴾, (الشورى: 52). واستنادًا إلى قوله: ﴿وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى﴾, (الضحى: 7). وهذا قول متهافت لا يقوى على الوقوف لأمرين اثنين:
فأمَّا الأول: فهو قول الله: ﴿الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ﴾, (الأعراف: 157). وقول الله: ﴿فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ﴾, (الأعراف: 158). فهاتان الآيتان الكريمتان تصف النبي e بالأمية, فلو كانت الأمية هي الأمية الدينية لما وصف بالأمي بعدما أصبح نبيًّا؛ لانتفاء الجهالة التي يزعمون.
وأمَّا الثاني: فهو قول النبي e:" إنَّا أمةٌ أمِّيَّةٌ لا نكتب ولا نحسب", رواه بخاري ومسلم. فهذا رسول الله, محمد e يشرح الأمية بعدم الكتابة والحساب, وليس بالجهالة الدينية كما تزعمون.
وبهذين الأمرين ندرأ تحريف الغالين, وانتحال المبطلين, وتأويل الجاهلين. والله الموفق.
إيميل الكاتب للمراسلة: alhady_aligat@yahoo.com