ُصِّلت لكل الخلق مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ خبير علامٍ للغيوب ، سبحانه وتعالى ، ومن ثم كان النَّسْخُ الخاص داخل الشريعة الواحدة ـ خصوصًا في هذه الشريعة ـ إحدى الدَّعائم الأساسية حتى تَسْتَقِر الشريعة على ما استقرت عليه من الكمال والرُّقيّ كما تبيَّن في الأمثلة السابقة ، ويوضح ذلك أكثر ما يلي : -
2) التطور في التشريع حتى يبلغ الكمال :
فلم تجب الصلاة إلا قبل الهجرة بنحو ثلاث أو خمس سنوات على الأكثر ، وكانت ركعتين ، فلما هاجر صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ زيد في صلاة الحضر ، وكذلك الزكاة وجبت في السنة الثانية للهجرة ، أو بُيِّنَتْ مقاديرها وأنواعها ، والصوم وجب في السَّنَة الثانية للهجرة ، والحج في التاسعة ، وهكذا .
والخمر هي اشهر وأبْرَز مثال على مراعاة المصالح وعلى التَّطَوُّر في التَّشريع ، حيث كان الناسُ يألفونها ويتلذذون بها ، ولم يكن عندهم من قوة الإيمان ما يتقبلون به التحريم ، ولا كان إيمانهم ودينهم تَامًّا بحيث لم يبق فيه نقص إلا ما يحصل بشرب الخمر ، بل قضايا الإيمان والاعتقاد أهم وأولى بكثير من قضية الخمر ، فلو نزل التحريم مرَّة واحدة لكان شاقًا عليهم ، وربَّما لا يتمكنون من الانتهاء عنه فورًا ، ولهذا جاء التدرج كما يلي : أ ـ الإباحة كما كانت عادتهم .
ب ـ مرحلة التَّعْريض كما قال تعالى :(( قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَآ أَكْبَرُ مِن نَّفْعِهِمَا )) البقرة ، فالعاقل يتركها ولكنه يرى في نَفْسهِ أنه في حل إن فَعَلَهُما .
جـ ـ التوقيت كما قال تعالى:(( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَقْرَبُواْ الصَّلاَةَ وَأَنتُمْ سُكَارَى حَتَّىَ تَعْلَمُواْ مَا تَقُولُونَ )) النساء ، وذلك يستلزم ألا يسكر المسلم حين أوقات الصلاة ، وإلا وقع فيما نهى الله عنه فهذا يُخَفِّف من شُرْبها .
د ـ مَرْحَل التأبِيدُ :((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلاَمُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ )) المائدة ، حيث حُرِّمت الخمر وصارت خبيثةً كلها بهذا التحريم وذلك في وقت ازدياد الإيمان وقبول التحريم والتنفيذ الفَوْري بإراقة الخمور على الأرض في شوارع المدينة ، ولم يتم التحريم إلا في السنة السادسة للهجرة ، أي بعد 19 سنة من البعثة ، وكان تقبُّل الناس للتحريم آية وعلامة على النظام الإسلامي المحكم .
3 ـ اختبار المكلفين بقيامهم بوظيفة الشُّكر إذا كان النسخ إلى أخَفَّ ، وبوظيفة الصبر ، إذا كان النسخ إلى أثقل حيث يقول سمعنا وأطعنا ولا يكون متبعًا لهواه بل يتَّبع الهدى .
4 ـ اختبار المكَلَّفين باستعدادهم لقبول التحول من حكم لآخر ورضاهم بذلك ، فإذا قيل للمؤمنين هذا حلال : فعلوه ، وإذا قيل بعد ذلك هذا حرام أمْسَكُوا عنه وليس لهم الخِيَرةُ من أمرهم ، أمَّا ضعفاء الإيمان وَالذين في قلوبهم مرض فلا يرضون بذلك التحول في الأحكام : أحيانا كذا وأحيانا كذا ما هذا ّ!!! فيكبر الأمر عليهم وتعظم عليهم المحنة وقد يرتد بعضهم كما حدث في مسألة القبلة .
= ما يَمْتَنِع نَسْخُه =
(1) الأخبار : لأن نسْخ أحد الخبرين يستلزم أن يكون أحدهما كذبًا أو وهما ، وذلك محال في حق اللهِ ورَسُولِه ، إلا أن يكون الحكم أتى بصورة الخبر فلا يمتنع نسخه لأن النسخ مَحِلُّه الحكم .
(2) الأحكام التي تكون مصلحة في كل زمان ومكان مثل التوحيد وأصول الإيمان وأصول العبادات ومكارم الأخلاق من الصدق والعفاف والكرم والشجاعة ونحو ذلك ، وكذلك النهي عن القبائح مثل الكفر والشرك ومساوئ الأخلاق من الكذب والفجور والبخل والجبن ونحو ذلك .
((تحويل القبلة))
لكل أمة من الأمم قبلة يتوجهون إليها في صلاتهم ، ومن لم يستقبل قِبْلَتَهم فليس منهم ، سواء كانت قبلتهم بوحي من الله أو كانت باصطلاح رؤسائهم وتحريفهم ، فأمَّا قبلة اليهود فليس في التوراة أمرٌ باستقبال الصَّخرة البَّتة ، وإنما كانوا ينصبون التابوت ويصلون إليه من حيث خرجوا ، فإذا قَدِمُوا إلى القدس نصبوه على الصخرة وصلَّوا إليه ، فلما رُفع واخْتَفى عنهم صلَّوا إلى موضعه وهو الصخرة ، وتلك قصة قبلتهم ، لا نعلم فيها وَحْيًا من الله ، بل الذي يترجح عند كثير من علماء المسلمين أنَّ الكعبة هي قبلة جميع الأنبياء ، خصوصًا أنبياء بني إسرائيل وهم أبناء إبراهيم عليه السلام الذي بنى الكعبة وهي قبلته فهم أولى الناس به ، قال تعالى:((إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِّلْعَالَمِينَ * فِيهِ آيَاتٌ بَيِّـنَاتٌ مَّقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَن دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا .. الآية )) آل عمران .
فكيف لأبْناء الأنبياء يخالفون قبلة أبيهم ، إلا أن يكون بأمْر من الله ، وذلك لا يَثْبُت بِنَصٍّ في التَّوراة ولا في غيرها ، بل أخبرنا الله عَزَّ وَجَلَّ بأنَّ الذين أوتوا الكتاب ليعلمون أنه الحق من ربهم ، أي ليعلمون أن قبلة النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ستستقر على الكعبة وأنها قبلة الأنبياء .
2 ـ قال تعالى:(( وَلِلّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّواْ فَثَمَّ وَجْهُ اللّهِ إِنَّ اللّهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ )) البقرة ، والمعنى : ولله الجهات كلها فأينما تتوجهوا وتستقبلوا فثم قبلة الله وَوْجهَتُه ، لكن الشأن أن تكون القبلة بأمر الله بالوحي حيثما وجَّهَنا تَوْجَّهْنا امتثالاً لأمره .
ومعلوم أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان إذا صلى النافلة على ظهْر دابته ، وجَّهَهَا إلى القبلة في تكبيرة الإحرام ثم يدعها تسير في اتجاهها حسب الطريق ، وفي ذلك نزلت تلك الآية :((فَأَيْنَمَا تُوَلُّواْ فَثَمَّ وَجْهُ اللّهِ )) البقرة فيما رواه أحمد ومسلم .
3 ـ ذكر المفسرون عن ابن عباس رضي الله عنه كان أول ما نُسِخَ من القرآن القبلة ، وذلك أنّ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لما هاجر إلى المدينة وكان اكثر أهلها اليهود ، وأمره الله أن يستقبل بيت المقدس ، ففرحت اليهود ، فاستقبلها رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بضعة عشر شهرًا (16 أو 17) شهرًا ، وقال اليهود : يخالفنا محمد في ديننا ويتبع قِبْلَتنا ، ولولا ديننا لم يدر أين يتوجه في صلاته ، فكره النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ البقاء علي قبلتهم ، وكان يحب قبلة إبراهيم عليه السلام فكان يدعو الله وينظر إلى السَّماء ، فأنزل اللهُ قوله:(( قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاء فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّواْ وُجُوِهَكُمْ شَطْرَهُ وَإِنَّ الَّذِينَ أُوْتُواْ الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّهِمْ وَمَا اللّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ )) البقرة فاستغلها اليهود وقالوا :(( مَا وَلاَّهُمْ عَن قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُواْ عَلَيْهَا )) البقرة فقال تعالى:(( قُل لِّلّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَن يَشَاء إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ )) البقرة .
روي البخاري عَنْ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَّى إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ سِتَّةَ عَشَرَ شَهْرًا أَوْ سَبْعَةَ عَشَرَ شَهْرًا ، وَكَانَ يُعْجِبُهُ أَنْ تَكُونَ قِبْلَتُهُ قِبَلَ الْبَيْتِ ، وَأَنَّهُ صَلَّى أَوْ صلاة صَلَّاهَا ( إلي البيت ) صَلَاةَ الْعَصْرِ ، وَصَلَّى مَعَهُ قَوْمٌ ، فَخَرَجَ رَجُلٌ مِمَّنْ كَانَ صَلَّى مَعَهُ فَمَرَّ عَلَى أَهْلِ الْمَسْجِدِ وَهُمْ رَاكِعُونَ قَالَ : أَشْهَدُ بِاللَّهِ لَقَدْ صَلَّيْتُ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قِبَلَ مَكَّةَ ، فَدَارُوا كَمَا هُمْ قِبَلَ الْبَيْتِ . وَكَانَ الَّذِي مَاتَ عَلَى الْقِبْلَةِ قَبْلَ أَنْ تُحَوَّلَ قِبَلَ الْبَيْتِ رِجَالٌ قُتِلُوا لَمْ نَدْرِ مَا نَقُولُ فِيهِمْ ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ (( وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ )) .
4 ـ لقد علم الله عَزَّ وَجَلَّ ما سيقول خصوم الإسلام من اليهود والمنافقين والمشركين في تحويل القبلة ، فقال تعالى:((سَيَقُولُ السُّفَهَاء مِنَ النَّاسِ مَا وَلاَّهُمْ عَن قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُواْ عَلَيْهَا قُل لِّلّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَن يَشَاء إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ )) البقرة ، وحدث ما اخبر به علام الغيوب حيث قالوا :
ـ إن كانت القبلة الأولى حقًا فقد تركتم الحقَّ ، وإن كانت باطلاً فقد كنتم على باطل .
ـ لو كان نبيَّا ما ترك قبلة الأنبياء قبله (بزعمهم أن الصخرة كانت قبلة الأنبياء) .
ـ لو كان نبيًّا ما كان يفعل اليوم شيئًا وغدا خلافه .
ـ وقال المشركون في مكة وغيرها : قد رجع إلى قبلتكم فيوشك أن يرجع إلى دينكم .
وعظمت بذلك المحنة على ضعاف الإيمان فارتاب بعضهم وارتد بعضهم ، قال تعالى:(( وَإِن كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلاَّ عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللّهُ )) البقرة .
ولقد أجاب الله عَزَّ وَجَلَّ بجواب شافٍ بعد أن قَدَّم له بمقدِّمات تقرِّرُهُ وتوضِّحه ، واستغرقت الإجابة والمقدمات من الآية 104 إلى الآية 150 من سورة البقرة ، والتَّعليقُّ على هذه الآيات لبيان بدائعها وروائعها يحتاج إلى رسالة خاصة لا يتَّسع المقام لذكرها هنا ، وسنكتفي بتوجيهات وتنْبِيهات سريعة على الآيات ، وينبغي للقارئ أن يتابع الآيات في المصحف لكي يستوعب ، ويَأخُذ الكتاب بقوة .
ـ سَيَقُولُ السُّفَهَاء مِنَ النَّاسِ (وهم اليهود أساسًا) مَا وَلاَّهُمْ عَن قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُواْ عَلَيْهَا (وهي بيت المقدس) قُل لِّلّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ (فليس جهة من الجهات إلا وهي ملك لله عَزَّ وَجَلَّ ، وبيت المقدس والكعبة جهتان مملوكتان لله يوليهم هذه أو تلك ، فَمَرّدُّ الأمْرِ إلى مشيئْته) يَهْدِي مَن يَشَاء إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ (فالاتجاه إلى بيت المقدس كان الأصلح والأنفع في وقته وكان هو الصراط المستقيم ، والاتجاه إلى المسجد الحرام هو الأصلح والأنفع في وقته وهو الصراط المستقيم ، ولله في كل ذلك حكم نعلم بعضها ونجهل أكثرها ، فَمَرَدُّ الأمْر إلى ملكيته للجهات وإلى مشيئته التي تكون بحكمته واختياره الأنفع والأصلح دائمًا) .
وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا (أعدل الأمم وأخيرها في كل أمور الدين ، وَسَطًا في الأنبياء بيْن من غُلا فيهم كالنصارى وبين من جفاهم كاليهود ، أما المسلمون فقد آمنوا بهم كلهم على الوجه اللائق بذلك ، ووسطًا في الشريعة ، لا تشديدات اليهود وأحبارهم ، ولا تهاون النصارى ، ووسطًا في باب الطهارة والمطعام ، لا كاليهود الذين لا تصح لهم صلاة إلا في بيعهم وكَنَائِسهم ، ولا يطهرهم الماء من النجاسات ، وقد حُرِّمت عليهم الطيبات عقوبة لهم ، ولا كالنصارى الذين لا يُنَجِّسون شيئًا ولا يحرِّمون شيئًا ، بل أباحوا ما دَبَّ وَدَرَج ، فلهذه الأمة من الدين أكمله ، ومن الأخلاق أجَلَّها ، ومن الأعمال أفضلها) . لِّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ (بسبب عدالتهم وحكمهم بالقسط ، فَيحْكُمُون على الناس من سائر أهل الأديان ، ومن ذلك ما يكون يوم القيامة إذا سأل الله تعالى المرسلين عن تَبْلِيغهم ، والأمم المكذبة عن ذلك فأنكروا أنَّ الأنبياء بلَّغتهم ، عندئذ يَسْتَشهدُ الأنبياء بهذه الأمة لما عندها من الكتاب المُهَيْمن على ما سبقه من الكتب ، وإِخْبَارِه عن بلاغ الأنبياء كما أُمِرُوا) وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا (فيزكي شهادة أمَّته التي هي أكمل الأمم وأجْوَدُها وأتمها إخلاصًا ومتابعة) . وهنا سؤال : لماذا لم يستقر الأمر منذ البداية على المسجد الحرام فيكون أبعد للمسلمين عن الفتن والريبة والقيل والقال وما كان من الرِّدَة وغيرها ، لا سِيَّمَا والكعبة هي أفضل بقاع الأرض ، وجهتها أفضل الجهات ، والمسجد الحرام أفضل من الأقصى وغيْره ؟ .
والجواب من الله تعالى :(( وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنتَ عَلَيْهَا إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَن يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّن يَنقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ وَإِن كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلاَّ عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللّهُ )) فالمُرَاد هو اختبار الناس وامتحانهم في إيمانهم كما سبق ، فيتميّز بذلك الراسخ في الإيمان المُسَلِّم للرسول المُنْقَاد له ممن يَعْبد اللهَ على حرف فينقلبُ بأدنى شبهة ، فيعلم الله معلومه الغيبي عيانًا مُشاهدًا ، علمًا يتعلَّق به الثواب والعقاب ويقوم به عدل الله عَزَّ وَجَلَّ حيث لا يؤاخذهم إلا بما كان منهم فعلاً لا لمجرَّد علمه تعالى . ولقد تَبَيَّن أنّ اليهود فرحوا باستقبال النبيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِقِبْلَتِهم ومع ذلك لم يتبعوه بل كانوا أشد المحاربين له صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، كما أنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لم يكن مُتَّبعًا قبلتهم ، بل كان متجهًا إلى الأقصى بأمر الله تعالى ، فقال :(( وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوْتُواْ الْكِتَابَ بِكُلِّ آيَةٍ مَّا تَبِعُواْ قِبْلَتَكَ وَمَا أَنتَ بِتَابِعٍ قِبْلَتَهُمْ .. الآية )) البقرة ، ثم قال : (( الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءهُمْ وَإِنَّ فَرِيقاً مِّنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ )) ، قال عبد الله بن سلام وكان واحدًا من أحبار اليهود قبل أن يسلم ، فقال : لقد عرفته حين رأيته كمعرفتي لابْنِي ومعرفتي لمحمَّدٍ أشد . ولكن فريقًا منهم ليكتمون الحقَّ الذي يعلمونه عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ واستقباله للكعبة كما سبق بيانه في قوله تعالى:(( وَإِنَّ الَّذِينَ أُوْتُواْ الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّهِمْ )) البقرة فالضمير في أنه لم يذكر له مُفَسِّرٌ إلا ما في السِّيَاق وهو قوله :(( فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ )) البقرة ، ثم قال تعالى:(( وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا )) البقرة أي مُوَلِّيها وجْهَه ، ووجهتكم الكعبة ((فَاسْتَبِقُواْ الْخَيْرَاتِ )) ، فاغتنموا أنتم أيها المسلمون هذا الخير وكونوا فيه سابقين ولا تترددوا فيه ، ثم جاء الأمر مكررًا مرتين خلاف المرة الأولى ، وهو الأمر باستقبال المسجد الحرام تفخيمًا له وتعظيمًا وبيانًا بأنه من أركان المِلَّة ، وأنه من فضل الله على الأمة الوسط ، وأن الله تعالى جعل الكعبة البيت الحرام قيامًا للناس ، فإذا هدمت الكعبة فقد انتهى قيام الناس في الأرض ، وتقوم القيامة .
أما التَّمْهِيد والمقدمات لتحويل القبلة الذي هو أمر كبير وتعظم به الفتنة ، فقد جاء ابتداء من الآية 104 من السورة كما يلي : -
* نهى الله المؤمنين عن التَّشبُّه بأهْل الكتاب في سوء أدبهم على الرسول وعلى ما جاء به ، فقال :(( لاَ تَقُولُواْ رَاعِنَا وَقُولُواْ انظُرْنَا وَاسْمَعُوا )) وأخْبر تعالى أنهم لحسدهم ما يودُّون أنّ الله ينزل علينا شيئًا من الكتاب والحكمة ، فقال :(( مَّا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلاَ الْمُشْرِكِينَ أَن يُنَزَّلَ عَلَيْكُم مِّنْ خَيْرٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَاللّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَن يَشَاء وَاللّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ )) البقرة ، فَبَيَّن اللهُ نعمته على المؤمنين وأنها لن تَنْقُص بل تزداد ، فإذا كان قد نسخ بعض القرآن أو أنْسِيَ بَعْضُه ، فإنه تعالى يأتي بخير من ذلك أو مثله ، فلا يزال المؤمنون في نعمة من الله سبحانه ((مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَا أَوْ مِثْلِهَا )) البقرة ، وهذه الخيرية والأفضلية من وجهين : وجه لازم حيث تكون الآية في نفسها أفضل من الآية المنسوخة (كفضل آية الكرسي وفاتحة الكتاب وسورة الإخلاص على غيرها من الكتاب) . وَوَجْهٌ عارِض بحيث تكون الآية الناسخة أو البديلة أفضل في وقتها وتكون المنسوخة افضل في وقتها . على أنّ هذه الآية (( مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا .. الآية )) تحتاج في بيان كنوزها إلى إطالة الكلام لاسْتيفَاء أقوال العلماء فيها ، واستيفاء معنى القراءة الثانية (( أو نَنْسأها )) لكني لا أريد أن أشق على عامة الناس فسأكتفي فيها بما ذكرت .
ثم بَيَّن اللهُ أن ذلك النسخ والإنساء والإتيان بخير منه أو مثله ، أنه على الله يَسير لأنه تعالى على كل شيءٍ قدير ، إذ أن الأنفع والأصلح والأنسب منذ الرسالة وإلى يوم الدين على امتداد الزمان واتساع المكان في كل بقاع الأرض واختلاف الناس وأجناسهم وألسنتهم وظروفهم وبيئاتهم وأحداثهم والصراعات التي لا حصر لها ، والتطورات التي لا حدود لها وما شابه ، فتقدير الآية الأصلح لكل هذا لا يقدر عليه إلا الله العليم الحكيم الخبير القدير الذي لا منازع له في ملكه ، بل له ملك السماوات والأرض ، وهو الذي يُقَدِّر الأحداث إلى يوم القيامة بما يشاء ، ويُنزِّل من الكتاب ما هو الأنسب لكل هذه الأحداث ، لا يُسْأَل عَمَّا يَفْعَل وهم يُسْأَلون . قال تعالى: (( .. نَأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَا أَوْ مِثْلِهَا أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللّهَ عَلَىَ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا لَكُم مِّن دُونِ اللّهِ مِن وَلِيٍّ وَلاَ نَصِيرٍ )) من وَلِيٍّ يَجْلِبُ لكم منفعة ولا نصير يدفع عنكم مضرة ، وإنما المنافع والمصالح كلها ودفع المضار بيد الله وحده ، فسلَّموا لله ورسوله ، ولا تنازعوا في شيء من النَّسخ وغيره (ومن ذلك القبلة) ، وإلا فهل تريدون أن تعترضوا وتسألوا رسول الله تَعَنُّتًا كما سُئل موسى من قبل : (( أَمْ تُرِيدُونَ أَن تَسْأَلُواْ رَسُولَكُمْ كَمَا سُئِلَ مُوسَى مِن قَبْلُ وَمَن يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالإِيمَانِ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاء السَّبِيلِ * وَدَّ كَثِيرٌ مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُم مِّن بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّاراً حَسَدًا مِّنْ عِندِ أَنفُسِهِم مِّن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ .. الآية )) ، فهم يَعْلَمُون الحَقّ وأنَّ الرسُولَ حَق في كل ما جاء به (ومن ذلك القبلة) لكنهم لِحَسَدِهم يُرِيدُونَ وَيَوَدُّون أنْ يستعصي المؤمنون على رَسُول اللهِ (في القِبْلة وغيرها) فَيْرتدُّوا بعد إيمانهم كافرين ، وعلى ذلك ينبغي الحذَرُ منهم وألا يُسْمَع منهم ، ولا يُقْبل قولُهم (لا في القبلة ولا في غيرها) كما ينبغي معرفة أنهم لَيْسُوا على شيء بإتهام بعضهم لبعض ، وقال تعالى:((وَلِلّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّواْ فَثَمَّ وَجْهُ اللّهِ إِنَّ اللّهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ )) وسبق بيانها وهي أساسية في المقَدَّمَة لِتحويل القبلة ، وقال تعالى: ((وَلَن تَرْضَى عَنكَ الْيَهُودُ وَلاَ النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللّهِ هُوَ الْهُدَى .. الآية )) ، وهذه واضِحَةٌ تَمامًا في قَطْع الأَمَل في إِرْضَائِهم إلاَّ باتَّبَاع مِلّتهم والعِياذُ بالله ، فَلاَ الْتِفَات إليهم في اعتراضهم على القبلة ولا في غيره ، وتَسْتِمرُّ الآيات في التتابع ، حيث ذكر اللهُ البَيْتَ الحَرّام وتَعْظِيِمَه وحرمته وذكر بَانيه وأثنى عليه وأوجب اتباع مِلَّتَه ، فقرَّرَ في النُّفُوس بذلك تِوجُّهَهَا إلى البيْت بالتَّعظيم والمَحبَّة ، وإلى بَانيه بالاتِّباع والموالاة والمُوَافقة ، وأَخْبر أنه جعل البيت مثابةً للناس يثوبون إليه ولا يقضون منه وَطَرًا ، فالقلوب دائمة الاشتياق إليه متوجهة إليه حيث كانت ، كما أخبر أنه أَمر إبراهيم وإسماعيل بتطهيره للطائفين والقائمين والمصلين وأضافه إليه بقوله : ((أَن طَهِّرَا بَيْتِيَ)) ، وهذه الإضافة هي التي أسكنت في القلوب من مَحَبَّته والشوق إليه ما أسْكَنَت ، وَهِيَ التي أَقْبَلت إليه بِأَفئدة العالم إليه ، فلمَّا استقَرَّت هذه الأمور في قلوب أهل الإيمان ، وذُكِّروا بها فكأنها نادتهم أن اسْتَقْبَلُوه في الصَّلاَةِ ، لكن توقَّفَتْ على وُرُودِ الأمْرِ مِنْ رب العالمين ، ووَرَدَ الأمر بعد هذه المقدمات ، لأن تحويل القبلة أمر عظيم كما سَبَق . ولولا الإِطالة لذكرتُ تَفَاصيل الآيات لِيَعْلم الناسُ شيئًا عن عظمة القرآن لكنَّ أهْلَ الزمان دائمًا على عجالة .
ونكتفي بهذا القدر وفيه كفاية .
والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات .
.............................
الشيخ : فوزي سعيد
ملحوظة : من أراد أن يُرسل ملحوظة أو تعليق للشيخ فليرسله علي هذا الإيميل وسوف يصله إن شاء الله .
eltawhed@islamway.net