ج 12:الرد على شبهات تقديم العقل على النقل(أن العقل الذي عارض به هؤلاء السمع هو النفي)
من كتاب :نقض أصول العقلانيين
كتبه / سليمان بن صالح الخراشي
الوجه الثالث والستون: أن العقل الذي عارض به هؤلاء السمع هو النفي، والذي دل عليه السمع هو الإثبات، على عرشه، ونزوله كل ليلة إلى سماء الدنيا، ومجيئه وإتيانه، وإثبات وجهه الأعلى، ويديه اللتين كلتاهما يمين وغير ذلك، والعقل عندهم دل على نفي ذلك كله، فالمعارضة التي ادعوها هي معارضة بين النفي والإثبات، فالرسل جاءوا بالإثبات المفصل للأسماء والصفات والأفعال، فجاء أرباب هذا العقل بالنفي المفصل لها، وادعوا التعارض بين دليل هذا الإثبات ودليل النفي، ثم قدموا دليل النفي.
فيقال الكلام معكم في مقامين:
أحدهما: أن العقل لم يدل على ثبوتها.
والثاني: أنه دل على انتفائها، فإن أردتم بدلالة العقل المقام الأول، فنفيها خطأ؛ فإنه لو نفي كل ما لم يدل عليه عقل أو حس نفيت أكثر الموجودات التي لا ندركها بعقولنا ولا حواسنا، وهذا هو حاصل ما عند القوم عند التحقيق، ومن تدبر أدلتهم حق التدبر، علم أنه ليس فيها دليل واحد يدل على النفي، ومعلوم أن الشيء لا ينفى لانتفاء دليل يدل عليه، وإن انتفى العلم به، فنفي العلم لا يستلزم نفي المعلوم، فكيف والعقل الصريح قد دل على ثبوتها.
وإن أردتم الثاني، وهو: أن العقل دل على انتفائها، فيقال: العقل إنما يدل على نفي الشيء إذا علم ثبوت نقيضه. فيعلم حينئذ أن النقيض الآخر منتف، فأين في العقل المقطوع بحكمه، أو المظنون ما يدل على نقيض ما أخبرت به الرسل، بوجه من وجوه الأدلة الصحيحة؟ فالمسلمون يقولون: قد دل العقل والوحي معاً على إثبات علم الرب تعالى آمراً ناهياً، وعلى كونه فوق العالم كله وعلى كونه يفعل بقدرته ومشيئته وعلى أنه يرضى ويغضب ويثيب ويعاقب ويحب ويبغض، فقد شهد بذلك العقل والنقل، أما النقل فلا يمكنكم المكابرة فيه، وأما العقل فلأن ذات الرب أكمل من كل ذات على الإطلاق، بل ليس الكمال المطلق التام من كل وجه إلا له وحده، فيستحيل وصفه بما يضاد كماله، وكل ما وصف به نفسه أو وصفه به رسوله فهو صفة كمال ثبوتها له أكمل من نفيها عنه، وقد اتفقت الأمم على أن الله سبحانه موصوف بالكمال، منـزه عن أضداده.
الوجه الرابع والستون: أن كل من عارض بين الوحي والعقل ورد نصوص الكتاب والسنة بالرأي الذي يسميه عقلاً لابد أن ينقض تلك النصوص المخالفة لعقله ويعاديها، ويود أنها لم تكن جاءت، وإذا سمعها وجد لها على قلبه من الثقل والكراهة بحسب حاله، واشمأز لها قلبه، والله يعلم ذلك من قلوبهم وهم يعلمونه أيضاً، حتى حمل جهماً الإنكار والبغض لقوله: (الرحمن على العرش استوى) على أن قال: لو أمكنني كشطها من المصحف كشطتها وحمل آخر بغض قوله: (وكلم اللهُ موسى تكليماً) على أن حرّفها وقرأها بالنصب وكلم اللهَ موسى تكليماً أي أن موسى هو الذي كلم الله وخاطبه والله لم يكلمه، فقال له أبو عمرو ابن العلاء فكيف تصنع بقوله: (ولما جاء موسى لميقاتنا وكلمه ربه) فبهت المعطل.
الوجه الخامس والستون: وهو قوله تعالى: (أفغير الله أبتغي حكماً وهو الذي أنزل إليكم الكتاب مفصلاً). وهذا يبين أن الحكم بين الناس هو الله عز وجل وحده، بما أنزله من الكتاب المفصل كما قال في الآية الأخرى: (وما اختلفتم فيه من شيءٍ فحكمه إلى الله). وقال تعالى: (كان الناس أمةً واحدة فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين وأنزل معهم الكتاب بالحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه) وقال تعالى: (إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك الله). وقال: (فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجاً مما قضيت ويسلموا تسليماً).
الوجه السادس والستون: أنه سبحانه أخبر أن كل حكم خالف حكمه الذي أنزله على رسوله فهو من أحكام الهوى، لا من أحكام العقل، وهو من أحكام الجاهلية، لا من حكم العلم والهدى، فقال تعالى: (وأن احكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم وأحذرهم أن يفتنوك عن بعض ما أنزل الله إليك فإن تولوا فاعلم أنما يريد الله أن يصيبهم ببعض ذنوبهم وإن كثيراً من الناس لفاسقون. أفحكم الجاهلية يبغون ومن أحسن من الله حكماً لقومٍ يوقنون).
فأخبر سبحانه وتعالى: أنه ليس وراء ما أنزله إلا اتباع الهوى، الذي يضل عن سبيله وليس وراء حكمه إلا حكم الجاهلية، وكل هذه الآراء والمعقولات المخالفة لما جاء به الرسول، هي من قضايا الهوى وأحكام الجاهلية، وإن سماها أربابها بالقواطع العقلية، والبراهين اليقينية، كتسمية المشركين أوثانهم وأصنامهم آلهة، وتسمية المنافقين السعي في الأرض بالفساد وصد القلوب عن الإيمان إصلاحاً وإحساناً وتوفيقاً.
الوجه السابع والستون: أن هؤلاء المعارضين لنصوص الوحي بعقولهم ليس عندهم علم، ولا هدى، ولا كتاب مبين، فمعارضتهم باطلة، وهم فيها أتباع كل (شيطانٍ مريد. كتب عليه أنه من تولاه فأنه يضله ويهديه إلى عذاب السعير) .
فهذا حال كل من عارض آيات الله بمعقوله، ليس عنده إلا الجهل والضلال، ورتب سبحانه هذه الأمور الثلاثة أحسن ترتيب فبدأ بالأعم وهو العلم، وأخبر أنه لا علم عند المعارض لآياته بعقله، ثم انتقل منه إلى ما هو أخص، وهو الهدى، ثم انتقل إلى ما هو أخص، وهو الكتاب المبين، فإن العلم أعم مما يدرك بالعقل والسمع والفطرة، وأخص منه الهدى الذي لا يدرك إلا من جهة الرسل، وأخص منه الكتاب الذي أنزله الله على رسوله، فإن الهدى قد يكون كتاباً، وقد يكون سنة وهذه الثلاثة منتفية عن هؤلاء قطعاً، أما الكتاب والهدى المأخوذ عن الرسل، فقد قالوا: إنه لا يفيد علماً ولا يقيناً، والمعقول يعارضه، فقد أقروا أنهم ليس معهم كتاب ولا سنة، وبقي العلم فهم يدعونه، والله تعالى قد نفاه عنهم، وقد قام البرهان والدليل العقلي المستلزم لمدلوله، على صدق الرب في خبره، فعلم أن هذا الذي عارضوا به الوحي، ليس بعلم، إذ لو كان علماً لبطل دليل العقل الدال على صدق الرب تعالى في خبره، فهذا يكفي في العلم بفساد كون ما عارضوا به علماً، فكيف وقد قام الدليل العقلي الصحيح المقدمات على فساد تلك المعارضة، وأنها تخص الجهل المركب؟ فكيف وقد اتفق على فساد تلك المعارضة العقل والنقل؟ ونحن نطالب هؤلاء المعارضين بواحدة من ثلاث: إما كتاب منـزل، أو أثارة من علم يؤثر عن نبي من الأنبياء، أو معقول صحيح المقدمات، وقد اتفق العقلاء على صحة مقدماته .
وهم يعلمون والله شهيد عليهم، بأنهم عاجزون عن هذا وهذا، أفنـترك ما علمناه من كتاب ربنا، وسنة نبينا، وما نزل به جبريل من رب العالمين، على قلب رسوله الأمين، بلسان عربي مبين، لوحي الشياطين، وشبه الملحدين، وتأويلات المعطلين؟
الوجه الثامن والستون: أن هذه المعقولات التي عارضوا بها الوحي لها معقولات تعارضها هي أقوى منها ومقدماتها أصح من مقدماتها فيجب تقديمها عليها. لو قدر تعارضهما، ولا يمكن هؤلاء أن يدفعوا كون النصوص من جانب هذه المعقولات، وحينئذ فمعقول تشهد له النصوص أولى بالصحة والقبول من معقول تدفعه النصوص، فنحن ندفع معقولاتهم بهذه المعقولات تارة وبالنصوص تارة وبهما تارة، ولا يمكنهم القدح في هذه المعقولات إلا بمقدمات يردها النص وهذا العقل، فكيف ترد هذه المعقولات والنصوص بتلك، وهذا قاطع لمن تدبره؟
الوجه التاسع والستون: أن يقال لمن جوّز مجيء الرسول بما يخالف صريح العقل ما تقول إذا سمعت كلامه قبل أن تعلم هل في العقل ما يخالفه أم لا؟ هل تبادر إلى رده وإنكاره؟ أم إلى قبوله واعتقاده؟ أم تتوقف فيه ولا تصدقه ولا تكذبه ولا تقبله ولا ترده؟ أم تعلق تصديقه والإقرار به على الشرط، وتقول أنا أعتقد موجبه إن لم يكن في العقل ما يرده؟ فلابد لك من واحد من هذه الأمور الأربعة، فالأول والثالث والرابع مناقض للإيمان بالرسول مناقضة صريحة والثاني لا سبيل لك إليه، لأنك قد جوزت أن يكون في صريح العقل ما يناقض ما أخبر به، فكيف تجزم مع ذلك بصحته، فالقسم الإيماني قد سددت طريقه على نفسك والأقسام الثلاثة مستلزمة لعدم الإيمان، وهذا إنما ينشأ من تجويز أن يكون في العقل الصريح ما يناقض ما أخبر به.
الوجه السبعون: أن كل من لم يقر بما جاء به الرسول إلا بعد أن يقوم على صحته عنده دليل منفصل من عقل، أو كشف، أو منام، أو إلهام، لم يكن مؤمناً به قطعاً، وكان من جنس الذين قال الله فيهم: (وإذا جاءتهم آية قالوا لن نؤمن حتى نؤتي مثل ما أوتى رسل الله) بل قد يكون هؤلاء خيراً منهم من وجه، فإنهم علقوا الإيمان بأن يؤتوا سمعاً مثل ما أوتيه الرسل، وهؤلاء علقوا الإيمان على قيام دليل عقلي على صحة ما أخبروا به، وإذا كان من فعل هذا ليس بمؤمن بالرسل فكيف من عارض ما جاءوا به بمعقوله ثم قدمه عليه ؟!
الوجه الحادي السبعون : أن هؤلاء المعارضين للوحي بآرائهم جعلوا كلام الله ورسوله من الطرق الضعيفة المزيفة التي لا يتمسك فيها في العلم واليقين، ولعلك تقول: إنا حكينا ذلك عنهم بلازم قولهم، فاسمع حكاية ألفاظهم، قال الرازي في نهايته: في تزييف الطرق الضعيفة وهي أربع، فذكر نفي الشيء لانتفاء دليله، وذكر القياس، وذكر الإلزامات، ثم قال: ((والرابع هو التمسك بالسمعيات)) .
وهذا تصريح بأن التمسك بكلام الله ورسوله من الطرق الضعيفة المزيفة، وأخذ في تقرير ذلك، فقال: ((المطالب على أقسام ثلاثة: منها: ما يستحيل حصول العلم بها بواسطة السمع. ومنها ما يستحيل حصول العلم بها إلا من السمع. ومنها ما يصح حصول العلم بها من السمع تارة ومن العقل أخرى .
قال: ((أما القسم الأول فكل ما يتوقف العلم بصحة السمع على العلم بصحته، استحال تصحيحه بالسمع مثل العلم بوجود الصانع، وكونه مختاراً وعالماً بكل المعلومات.. وصدق الرسول)).
قال: ((وأما القسم الثاني: فهو ترجيح أحد طرفي الممكن على الآخر إذا لم يجده الإنسان من نفسه، ولم يدركه بشيء من حواسه، فإنّ جلوس غراب على قلة جبل قاف، إذا كان جائز الوجود والعدم مطلقاً، وليس هناك ما يقتضي وجوب أحد طرفيه أصلاً، وهو غائب عن الحس والنفس، استحال العلم بوجوده إلا من قول الصادق .
وأما القسم الثالث: وهو معرفة وجوب الواجبات أو إمكان الممكنات أو استحالة المستحيلات التي لا يتوقف العلم بصحة السمع على العلم بوجوبها وإمكانها واستحالتها، مثل: مسألة الرؤية، والصفات، الوحدانية وغيرها)) ثم عدد أمثلة .
ثم قال : ((إذا عرفت ذلك فنقول: أما أن الأدلة السمعية لا يجوز استعمالها في الأصول في القسم الأول، فهو ظاهر وإلا وقع الدور، وأما أنه يجب استعمالها في القسم الثاني، فهو ظاهر كما سلف.
وأما القسم الثالث ففي جواز استعمال الأدلة السمعية فيه إشكال، وذلك لأنا لو قدرنا قيام الدليل القاطع العقلي على خلاف ما أشعر به ظاهر الدليل السمعي، فلا خلاف بين أهل التحقيق بأنه يجب تأويل الدليل السمعي، لأنه إذا لم يكن الجمع بين ظاهر النقل، وبين مقتضى الدليل العقلي، فإما أن نكذب بالعقل، وإما أن يأول النقل، فإن كذبنا العقل مع أن النقل لا يمكن إثباته إلا بالعقل، فإن الطريق إلى إثبات الصانع ومعرفة النبوة ليس إلا بالعقل، فحينئذ تكون صحة النقل متفرعة على ما يجوز فساده وبطلانه، فإذاً لا يكون العقل مقطوع الصحة، فإذاً تصحيح النقل برد العقل يتضمن القدح في النقل وما أدى ثبوته إلى انتفائه كان باطلاً وتعين تأويل النقل.
فإذاً الدليل السمعي لا يفيد اليقين بوجود مدلوله إلا بشرط أن لا يوجد دليل عقلي على خلاف ظاهره فحينئذٍ لا يكون الدليل النقلي مفيداً للمطلوب إلا إذا أثبتنا أنه ليس في العقل ما يقتضي خلاف ظاهره، ولا طريق لنا إلى إثبات ذلك إلا من وجهين، إما أن نقيم دلالة عقلية على صحة ما أشعر به ظاهر الدليل النقلي، وحينئذٍ يصير الاستدلال بالنقل فضلاً غير محتاج إليه .
وإما بأن نزيف أدلة المنكرين لما دل عليه ظاهر النقل، وذلك ضعيف لما بينا من أنه لا يلزم من فساد ما ذكروه أن لا يكون هناك معارض أصلاً، إلا أن نقول: إنه لا دليل على هذه المعارضات، فوجب نفيه، ولو كنا زيفنا هذه الطريقة يعني انتفاء الشيء لانتفاء دليله أو نقيم دلالة قاطعة على أن المقدمة الفلانية غير معارضة لهذا النص ولا المقدمة الأخرى، وحينئذ نحتاج إلى إقامة الدليل على أن كل واحدة من هذه المقدمات التي لا نهاية لها غير معارضة لهذا الظاهر.
فثبت أنه لا يمكن حصول اليقين لعدم ما يقتضي خلاف الدليل النقلي، وثبت أن الدليل النقلي تتوقف إفادته لليقين على ذلك، فإذاً الدليل النقلي تتوقف إفادته اليقين على مقدمة غير يقينية، وهي عدم دليل عقلي، وكل ما يبتنى صحته على ما لا يكون يقيناً لا يكون هو أيضاً يقيناً، فثبت أن ذلك الدليل النقلي من هذا القسم لا يكون مفيداً لليقين))
قال: ((وهذا بخلاف الأدلة العقلية، فإنها مركبة من مقدمات لا يكتفى فيها بأن لا يعلم بالبديهة لزومها مما علم صحته بالبديهة، ومتى كان كذلك استحال أن يوجد ما يعارضه لاستحالة التعارض في العلوم البديهية)).
ثم قال ((فإن قيل : إن الله سبحانه لما أسمع المكلف الكلام الذي يشعر ظاهره بشيء فلو كان في العقل ما يدل على بطلان ذلك الشيء وجب عليه سبحانه أن يخطر ببال المكلف ذلك الدليل وإلا كان ذلك تلبيساً من الله تعالى وإنه غير جائز.
قلنا: هذا بناء على قاعدة الحسن والقبح، وأنه يجب على الله سبحانه شيء ونحن لا نقول بذلك ثم إن سلمنا ذلك، فلم قلتم: إنه يجب على الله أن يخطر ببال المكلف ذلك الدليل العقلي؟، وبيانه، أن الله تعالى إنما يكون ملبساً على المكلف لو أسمعه كلاماً يمتنع عقلاً أن يريد به إلا ما أشعر به ظاهره، وليس الأمر كذلك، لأن المكلف إذا سمع ذلك الظاهر فبتقدير أن يكون الأمر كذلك لم يكن مراد الله من ذلك الكلام ما أشعر به الظاهر، فعلى هذا إذا أسمع الله تعالى المكلف ذلك الكلام، فلو قطع المكلف بحمله على ظاهره مع قيام الاحتمال الذي ذكرنا كان ذلك التقدير تقصيراً واقعاً من المكلف لا من قبل الله تعالى حيث قطع لا في موضوع القطع، فثبت أنه لا يلزم من عدم إخطار الله تعالى ببال المكلف ذلك الدليل العقلي المعارض للدليل السمعي أن يكون ملبساً)).
قال: ((فخرج مما ذكرنا أن الأدلة النقلية لا يجوز التمسك بها في باب المسائل العقلية.. نعم يجوز التمسك بها في المسائل النقلية تارة لإفادة اليقين كما في مسألة الإجماع وخبر الواحد، وتارة لإفادة الظن كما في الأحكام الشرعية)) انتهى .
فليتدبر المؤمن هذا الكلام وليرد أوله على آخره وآخره على أوله، ليتبين له ما ذكرنا عنهم من العزل التام للقرآن والسنة عن أن يستفاد منهما علم أو يقين في باب معرفة الله، وما يجب له، وما يمتنع عليه، وأنه لا يجوز أن يحتج بكلام الله ورسوله في شيء من هذه المسائل وأن الله تعالى يجوز عليه التلبيس والتدليس على الخلق وتوريطهم في طرق الضلال وتعريضهم لاعتقاد الباطل والمحال، وأن العباد مقصرون غاية التقصير إذا حملوا كلام الله ورسوله على حقيقته، وقطعوا بمضمون ما أخبر به حيث لم يشكوا في ذلك، إذ قد يكون في العقل ما يعارضه ويناقضه، فإن غاية ما يمكن أن يحج بكلام الله ورسوله عليه من الجزئيات ما كان مثل الإخبار بأن على قلة جبل قاف غراباً صنعته كيت وكيت، أو على مسألة الإجماع وخبر الواحد، وأن مقدمات أدلة القرآن والسنة غير معلومة ولا متيقنة الصحة، ومقدمات أدلة أرسطو صاحب المنطق والفارابي وابن سينا وإخوانهم قطعية معلومة الصحة، وأنه لا طريق لنا إلى العلم بصحة الأدلة السمعية في باب الإيمان بالله وأسمائه وصفاته البتة لتوقفها على انتفاء ما لا طريق لنا إلى العلم بانتفائه وأن الاستدلال بكلام الله ورسوله في ذلك فَضْلة لا يحتاج إليها، بل هو مستغنىً عنه إذا كان موافقاً للعقل .
فتأمل هذا البنيان الذي بنوه، والأصل الذي أصلوه، هل في قواعد الإلحاد أعظم هدماً منه لقواعد الدين، وأشد مناقضة منه لوحي رب العالمين؟! وبطلان هذا الأصل معلوم بالاضطرار من دين جميع الرسل وعند جميع أهل الملل.
الوجه الثاني والسبعون: أن الدين تصديق الرسول فيما أخبر، وطاعته فيما أمر، وكل منهما نوعان: مطلق ومقيد.
فالمقيد مثل أن يقول: لا أصدقه إلا فيما علمت صحته بعقلي، أو فيما يخالف عقلي، أو وافقه فيه شيخي وإمامي وأصحاب مذهبي، والمقيد من طاعة الأمر أن يطيعه فيما وافق حظه وهواه، فإن جاء أمره بخلاف ذلك قدم حظه وهواه عليه، فهذا غير مطيع للرسول في الحقيقة، بل هو متبع لهواه، كما أن ذاك غير مصدق له في الحقيقة، بل إن وافق قوله عقله أو قول شيخه وإمامه ومتبوعه قبله، لا لكونه قاله، كما أن مطيعه فيما وافق هواه، إنما هو متبع لما يحبه ويهواه، فإن جاء الأمر بما يهواه فعله، وإلا لم يفعله، وهذا حال أكثر الناس، وأحسن أحوال هؤلاء أن يكونوا من الذين قال الله فيهم: (قالت الأعراب آمنا قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا ولما يدخل الإيمان في قلوبكم وإن تطيعوا الله ورسوله لا يلتكم من أعمالكم شيئاً إن الله غفور رحيم). ثم ذكر وصف أهل الإيمان فقال: (إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله ثم لم يرتابوا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله أولئك هم الصادقون). فالتصديق والطاعة لا يكون إيماناً حتى يكون مطلقاً، فإذا تقيد فأعلى أحواله –إن سلم من الشك- أن يكون إسلاماً ويكون صاحبه من عوام المسلمين لا من خواص المؤمنين.
الوجه الثالث والسبعون: أنه لو كان ظاهر الكتاب مخالفاً لصريح المعقول لكان في الصدور أعظم حرج منه وضيق، وهذا خلاف المشهود بالباطن لكل ذي عقل سليم، فإنه كلما كان الرجل أتم عقلاً كان الحرج بالكتاب أبعد منه، قال تعالى: لرسوله: (آلمص. كتاب أنزل إليك فلا يكن في صدرك حرج منه) والله تعالى رفع الحرج عن الصدور بكتابه، وكانت قبل إنزال الكتاب في أعظم الحرج والضيق، فلما أنزل كتابه ارتفع به عنها ذلك الحرج، وبقي الحرج والضيق على من لم يؤمن به كما قال تعالى: (فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيقاً حرجاً) ومن آمن به من وجه دون وجه ارتفع عنه الحرج والضيق من الوجه الذي آمن به دون ذلك الوجه، فمن أقر أنه منـزل من عند الله أنزله على رسوله، ولم يقر بأنه كلامه الذي تكلم به، بل جعله مخلوقاً من جملة مخلوقاته، كان في صدره من الضيق والحرج ما يناسب ذلك، ومن أقر بأنه تكلم بشطره وهو المعاني دون شطره الآخر وهو حروفه كان في صدره من الحرج منه ما يناسب ذلك، ومن زعم أنه غير كاف في معرفة الحق، وأن العباد يحتاجون معه إلى معقولات وآراء ومقاييس وقواعد منطقية ومباحث عقلية ففي صدره منه أعظم حرج، وأعظم حرجاً منه من اعتقد أن فيه ما يناقض العقل الصريح، ويشهد العقل بخلافه. وكذلك من زعم أن آياته لا يستفاد منها علم ولا يقين ففي صدره منه من الحرج ما الله به عليم.