line-height: 115%;">4- ومن ذلك حديث عائشة رضى الله عنها، لما قيل له
، إن صفية زوجه – حائض – قال : عقرى حلقى"فقوله : "عقرى" أى عقرها الله، وأصابها بجرح فى جسدها، وقيل جعلها عاقراً لا تلد، وقيل عقر قومها
ومعنى "حلقى" أى حلق شعرها، وهو زينة المرأة، أو أصابها وقوع فى حلقها، أو حلق قومها بشؤمها، أى أهلكهم
فهذا أصل هاتين الكلمتين، ثم اتسع العرب فى قولهما، بغير إرادة حقيقتهما، ففى ذلك كله دلالة، على استعمال رسول الله لما جرت به العادة فى الخطاب، ولا يراد به حقيقته، فكثيراً ما ترد للعرب ألفاظ، ظاهرها الذم، وإنما يريدون بها المدح، كقولهم : لا أب لك، ولا أم لك، ونحو ذلك. فاشفق ، على من دعا عليه، بمثل ما سبق، أن يوافق القدر، فسأل ربه عز وجل، أن يجعل ذلك القول رحمة وقربة، وهذا من جميل خلقه العظيم
5- وفى المسند عن خال أبى السوار قال : رأيت رسول الله
، وأناس يتبعونه، فأتبعته معه، قال : ففجئنى القوم يسعون، قال : وأبقى القوم، قال : فأتى على رسول الله
، فضربنى ضربة إما بعسيب أو قضيب أو سواك أو شئ كان معه، قال : فوالله ما أوجعنى قال : فبت بليلة، قال : وقلت ما ضربنى رسول الله
، إلا لشئ علمه الله فى، قال : وحدثتنى نفسى أن آتى رسول الله
، إذا أصبحت، قال : فنزل جبريل عليه السلام على النبى ، فقال : إنك راع، لا تكسرن قرون رعيتك، قال : فلما صلينا الغداة، أو قال أصبحنا، قال : قال رسول الله اللهم إن إناساً يتبعونى، وإنى لا يعجبنى أن يتبعونى، اللهم فمن ضربت أو سببت، فاجعلها له كفارة وأجراً، أو قال مغفرة ورحمة، أو كما قال"
فتأمل : كيف أن ضربه هنا كالجلدة، وقعت منه
، من غير قصد ولا نية للإيذاء، حيث أقر المضروب؛ أنها لم توجعه، وقد دل الحديث على أن الجلدة، وقعت منه ، عتاباً. على من تبعه، من قومه فى مقام، لم يعجبه ، أن يتبعوه فيه
6- ومن هذا القبيل ما جاء فى ضربه
، لعبد الله بن عباس رضى الله عنهما، ملاطفة وتأنيساً وحثاً له على سرعة إنجاز ما طلبه منه
فعن ابن عباس قال : "كنت ألعب مع الصبيان، فجاء رسول الله
فتواريت خلف باب، قال : فجاء فحطأنى – أى ضربنى باليد مبسوطة بين الكتفين – وقال : اذهب وادع لى معاوية… الحديث
7- ومن ذلك أيضاً، ما جاء فى حديث معاذ، وهل نؤاخذ بما تكلمت به ألسنتنا يا رسول الله؟ قال: فضرب رسول الله ، فخذ معاذ، ثم قال : "يا معاذ ثكلتك أمك وما شاء الله أن يقول له من ذلك… الحديث"
وفى الأحاديث السابقة رد على ما استدركه الحافظ على الوجه الثالث، بأن الجلد لا يقع عن غير قصد… الخ، فإن ذلك محمول كما هو ظاهر الأحاديث السابقة على الجلدة الواحدة، من غير قصد ولا نية للإيذاء إلا مجرد العادة الجارية أو التأكيد للعتب. وإذا حملت الجلدة فى الحديث على الواقعة بقصد ونية، وأكثر من جلدة، فيحمل الجلد حينئذ على الوجه الأول السابق، فيزول أيضاً اعتراض الحافظ على حسن الوجه الثالث. والله أعلم
8- وعن أنس قال : كانت عند أم سليم يتيمة، فرأى رسول الله
اليتيمة فقال : أنت هيه! لقد كبرت، لا كبر سنك. فرجعت اليتيمة إلى أم سليم تبكى، فقالت أم سليم مالك يا بنية! قالت الجارية : دعى على نبى الله
، أن لا يكبر سنى، فالآن لا يكبر سنى أبداً، أو قالت قرنى، فخرجت أم سليم مستعجلة تلوث خمارها( ) حتى لقيت رسول الله
، فقال لها : مالك يا أم سليم؟ فقالت : يا نبى الله! أدعوت على يتيمتى؟ قال : وما ذاك يا أم سليم؟ قالت : زعمت أنك دعوت أن لا يكبر سنها، ولا يكبر قرنها، قال : فضحك رسول الله ، ثم قال : يا أم سليم! أما تعلمين أن شرطى على ربى، أنى اشترطت على ربى فقلت : إنما أنا بشر أرضى كما يرضى البشر. وأغضب كما يغضب البشر، فأيما أحد دعوت عليه، من أمتى، بدعوة ليس لها بأهل، أن يجعلها له طهوراً وزكاة، وقربة يقربه بها منه يوم القيامة"
9- وعن ابن عباس رضى الله عنهما، أن رسول الله
بعث إلى معاوية ليكتب له فقال : إنه يأكل، فقال رسول الله
: لا أشبع الله بطنه"، زاد البيهقى فى الدلائل : فما شبع بطنه أبداً"
فما ورد هنا فى حديث أنس من قوله : "لقد كبرت لا كبر سنك" وفى حديث ابن عباس "لا أشبع الله بطنه" الظاهر من هذا الدعاء، أنه وقع منه
، بغير قصد ولا نية، بل هو مما جرت به عادة العرب فى وصل كلامها بلا نية؛ ومع ذلك أشفق نبى الرحمة من موافقة أمثالها إجابة، فعاهد ربه، كما فى روايات الحديث، أن يجعل ذلك للمقول له زكاة، ورحمة، وقربة، وهذا إنما يقع منه ، فى النادر الشاذ من الزمان
وفيما سبق، فيه الكفاية للدلالة على ترجيح الوجه الثالث، فى معنى حديثنا كما أن فى كل ما سبق رد على استغلال بعض الفرق وأشياعهم حديث ابن عباس السابق للطعن فى معاوية رضى الله عنه
وليس فى الحديث ما يساعدهم على ذلك؛ كيف وفى الحديث أنه كان كاتب الوحى لرسول الله
قال الإمام النووى : "وقد فهم مسلم – رحمه الله – من هذا الحديث، أن معاوية لم يكن مستحقاً للدعاء عليه، فلهذا أدخله فى هذا الباب يعنى باب (من لعنه النبى
، أو سبه، أو دعاء عليه، وليس هو أهلاً لذلك كان له زكاة وأجراً ورحمة) وجعله غيره من مناقب معاوية، لأنه فى الحقيقة يصير دعاء له"
وقال الحافظ ابن كثير : "وقد انتفع معاوية رضى الله عنه، بهذه الدعوة فى دنياه وأخراه، أما فى دنياه، فإنه لما صار إلى الشام أميراً، كان يأكل فى اليوم سبع مرات، يجاء بقصعة فيها لحم كثير، وبصل فيأكل منها، ويأكل فى اليوم سبع أكلات بلحم، ومن الحلوى والفاكهة شيئاً كثيراً، ويقول : والله ما أشبع، وإنما أعيا – أى أتعب – وهذه نعمة، ومعدة يرغب فيها كل الملوك، وأما فى الآخرة فقد اتبع المسلمون هذا الحديث، بالحديث الذى رواه البخارى وغيرهما من غير وجه، عن جماعة من الصحابة؛ أن رسول الله
قال : "اللهم إنما أنا بشر فأيما عبد سببته، أو جلدته، أو دعوت عليه، وليس لذلك أهلاً فاجعل ذلك كفارة وقربة تقربه بها عندك يوم القيامة"فركب مسلم من الحديث فضيلة لمعاوية، ولم يورد له غير ذلك"
وبالجملة : فحديثنا ليس فيه ما يعارض عصمة رسول الله
فى سلوكه وهديه، وخلقه العظيم؛ بل فيه كمال شفقته
على أمته، وجميل خلقه، وكرم ذاته، حيث قصد مقابلة ما وقع منه، بالجبر والتكرم
وهذا كله فى حق معين فى زمنه واضح، وأما ما وقع منه
بطريق التعميم لغير معين، حتى يتناول من لم يدرك زمنه
فلا يشمله"
والله تبارك وتعالى أعلى وأعلم
...............................................
كتبة الاخ : ابوعبدالله